الحلم

 

فاطمة اليمانية

 

"أنا مصممٌ على بلوغِ الهدف.. فإمّا أنجح.. وإمّا أن أنجح!". ديل كارنيجي.

***

قالت لها شقيقتها:

  • مبارك.. 92%.

فامتزجت دموع الفرح بالزغاريد، والحمد والشكر لله.

  • أخيرا! سيتحققُ الحلم.. وستصبح مُعلمة تاريخ.

لأنّها تعشق مادة التاريخ، وعاشت معظم سنوات الدراسة كأنّها جزء لا يتجزأ من كتاب التاريخ! وبقية المواد -عدا التاريخ- مجرد تحصيل حاصل!

وبعد أسبوع أخذت شهادتها الأصلية، وذهبت إلى الجامعة للتسجيل، موقنة تماماً بأنّ قبولها في التخصص أمر محسوم!

فسلّمت الموظف أوراق الالتحاق بالجامعة، والشهادة الأصلية، وعادت إلى صحار والابتسامة تعلو وجهها، بطريقة أشعرتها بأنَّ الأشجار ومصابيح الشارع تشاركها طقوس الفرح!

وليلة الإعلان عن نتيجة القبول في الجامعة، غادر النوم جفونها، ولم تنم إلّا بعد صلاة الفجر، وبعد دعائها بأنْ يكون اسمها في أعلى قائمة المقبولين في الجامعة.

لتفتح عينيها على صوت شقيقتها، وهي حاملة الجريدة:

  • خديجة.
  • أعطني الجريدة.

فتحت عينيها المثقلتين بالرقاد على اتّساعهما.. وتتبّعت بإصبعها أسماء المقبولين حتى لا يفوتها اسمها سهوا، وأعادت القراءة مرّة ثانية.. وفي المرة الثالثة صرخت بأعلى صوتها مستغيثة:

  • أمّي.

هرعت أمّها وكل من في المنزل للتخفيف عن فاجعتها بعدم قبولها، وامتنعت عن تناول الطعام، وبالكاد استطاعت أن ترشف رشفة ماء.

وفي اليوم التالي ذهبت هي وشقيقها وشقيقتها لمعرفة سبب الرفض، وتفاجأوا بأنَّ أقلّ نسبة تمّ قبولها في تخصص التاريخ هي 94%!

فطلبت من الموظف ملف الأوراق؛ فسألها:

  • أليس لديكم نسخة من الشهادة!
  • لا توجد نسخة!
  • حسناً، تستطيعين التسجيل في كلية التربية للمعلمات بدون شهادة، وعودي بعد أسبوع لاستلام الملف! انظري الحشد الغفير خلفك! وكومة الملّفات خلفي، ومن الصعب النبش عن ملّفك الآن! عودي بعد أسبوع!

وفي اليوم التالي، رافقها شقيقها للتسجيل في كلية التربية، فسألوها عن النسخة الأصلية للشهادة، وأخبرتهم أنّها ما زالت عالقة في قسم القبول والتسجيل في الجامعة؛ فأبلغتهم الموظفة بصعوبة إدراج اسمها في التسجيل؛ لعدم وجود الشهادة الأصلية، أو نسخة منها؛ فأخرجت لها ملحق الجريدة، وأشارت إلى اسمها المدرج ضمن قائمة الطلاب الناجحين في الثانوية العامة، فقالت لها:

  • هل يتم تسجيل الطلبة بنسخ الجرائد؟!

خرجت مكفهرة الوجه، شاحبة، متسائلة عمّا ينتظرها خارج جدران الكلية، وما مصيرها؟ وفي أيّ كلية أو معهد ستواصل دراستها، وهي التي حصلت على نسبة (%92)!

مرّ أسبوع كامل بعد مغادرتها كلية التربية، ولم تتمكن من الحصول على ملف التسجيل بما فيه من شهادة أصلية وفحوصات طبية وشهادة حسن السير والسلوك، ولم تستلم الملف إلا في نفس أسبوع إعلان نتائج القبول في كلية التربية.

قضت ليلتها تحت غطاء فراشها مختبئة من مواجهة الدنيا الموحشة! وتمنّت لو كان ما يحدث معها مجرد كابوس مفزع سينتهي مع أذان الفجر!

في اليوم التالي قرّرت انتشال نفسها من صدمتها، والإسراع في البحث عن مقعد شاغر للدراسة؛ فأمسكت الجريدة، وقرأت إعلان معهد التمريض، الذي لم يشترط -في تلك الأيام-أن يكون تخصص الطالب في المجال العلمي، فوضعت دائرة حول الإعلان، وشجعّتها أمّها على الالتحاق بالمعهد، رغم مخاوفهما من رفض شقيقها؛ فمهنة التمريض كانت من المهن التي لا يحبّذ بعض الأهالي التحاق بناتهم بها، وذلك بسبب نظام العمل، فاتّفقت مع والدتها على التسجيل دون إخبار شقيقها؛ حتى لا يعترض، وإذا تمّ قبولها، ستحاولان إقناعه، بشتى الطرق!

وبعد أسبوعين تمّ الإعلان عن أسماء المقبولين في المعهد؛ فهاتف أحد أقاربها شقيقها مُبَشِّراً:

  • مبارك، شقيقتك تمّ قبولها في معهد التمريض!

شعر بالدماء تغلي في عروقه؛ فكيف تتجرأ شقيقته على التسجيل في معهد التمريض دون علمه؛ لذلك أسرع إلى قسم التسجيل والقبول في معهد التمريض، واستلم ملّف الأوراق، وعاد للبيت غاضبا، ولم يناقشها، بل ألقى الأوراق أمامها؛ فتسمّرت مكانها ولم تنطق!

وعاد بعد ساعة معتذرا، وحدثها عن صعوبة نظام العمل في التمريض، ثم فتح الجريدة؛ ليبحث معها عن معهد مختلف، وشجّعها على التسجيل في معهد التثقيف الصحّي، وبعد يومين ذهبت لإجراء المقابلة؛ فجلست هي وطالبتان مقابل أعضاء اللجنة؛ فقال أحد أعضاء اللجنّة بعد أن رشقهن بنظرة سابرة ذات مغزى:

  • كم كبداً للإنسان؟

فأسرعت خديجة بالرد:

  • كبد واحدة.
  • غلط!

وأخذت تتذكر أعضاء أحشاء الإنسان، فهل يقصد البنكرياس بالكبد الثانية؟

  • البنكرياس؟!

ضحك منها، وقالت طالبة أخرى:

  • الأولاد، فالشاعر يقول: إنّما أولادنا أكبادنا.... تمشي على الأرضِ!

تهلّل وجهه مسرورا:

  • الله.. الله.. ممتازة! رائعة! مبارك لك القبول!

خرجت خديجة مدهوشة من السؤال، والإجابة! وعادت إلى المنزل بخفيّ حنين، وغطّت في نوم عميق، هاربة من ألم البحث عن مقعد شاغر للدراسة، وفي المساء، ناولها شقيقها الجريدة، وقال لها:

  • ما رأيك في المعهد المصرفي؟!
  • تعبت..
  • اجتازي الاختبار، ربما كان لكِ نصيبا.

وفي الصباح التالي اتّجهت إلى مسقط هي وشقيقها لتؤدي اختبار القبول الذي بدأ في الساعة 11صباحا، وفي قاعة الاختبار ظلّت واجمة تتأمل الأسئلة والمسائل الرياضية التي كُتِبت باللغة الإنجليزية! فكيف ستجيب عليها؟!

واستمرّ الاختبار إلى الساعة 6 مساءً، فخرجت مترنحة من شدّة الانهاك والتعب، لطول الاختبار وصعوبته، وكلّها يقينا بأنّها لن تنجح! وفعلا لم يتم قبولها، وأضيفت خيبة جديدة إلى خيباتها المستمرة في مواصلة تعليمها!

وعرفت في اليوم التالي بأنّ إحدى قريباتها قدّمت أوراقها للتسجيل في جامعة العين، وبأنّ التسجيل ما زال مفتوحا لمدّة أسبوعين، وبإمكان زوجها إيصال الملف إلى قسم القبول والتسجيل في الجامعة. فأعطت خديجة قريبتها الملف، وعكفت على الدعاء والصلاة وشطب تواريخ التقويم المعلق في غرفتها يوما بعد يوم؛ علّ وعسى أن يكون لها نصيب في الدراسة الجامعية، ولا يهمّ التخصص، فكل التخصصات أصبحت جميلة ورائعة وأحسن ما يكون!

في اليوم التالي وصلها اتّصال من قريبتها تبشّرها بقبولها للدراسة، وتستحثّ همّتها للحضور، فانتشرت زغاريد الفرح في المنزل:

  • أخيرا!

سجدت شكرا لله، وتمكّنت خلال يومين من تجهيز حقيبة الملابس؛ وساعدتها شقيقتها وزوجة شقيقها في ترتيب الحقيبة، والحرص على حمل جميع الأغراض التي ستحتاج إليها في السكن الجامعي. وفي اليوم الثالث استيقظت قبل صلاة الفجر؛ لتستعد للذهاب إلى الجامعة، بل أيقظت كل من في المنزل، شقيقها وزوجته ووالدتها وأشقاؤها الصغار المدهوشين من إيقاظهم في ذلك الوقت، فقالت لهم:

  • صلاة الفجر!

وكانت تقنعهم بأنّها سمعت الأذان، وبأنّ جميع الساعات في المنزل معطّلة! وربما أصاب هواتفهم نفس العطل!! ولم تكفّ إلّا بعد سماع صوت المؤذن:

  • الله أكبر.. الله أكبر.

فقالت لهم:

  • يبدو أنّ هذا المؤذن أخطأ في التوقيت!

فأجابوها ساخرين ومتثائبين:

  • ربما! ساعته معطلّة!

شمّرت عن ساعديها، وقبل أن تعود إلى غرفتها قالت لشقيقها:

  • بعد صلاة الفجر مباشرة!
  • مباشرة!

دعك عينيه المثقلتين بالنعاس؛ ثم قال مغالبا ضحكه رأفة بها:

  • إن شاء الله يا خديجة.. تجهزي.

 وفعلا وصلت الجامعة قبل التاسعة صباحا، وعند وصولها نزلت لفتح صندوق السيارة! وجذبت حقيبتها الثقيلة، فلحق بها شقيقها لمساعدتها، وقالت له بعد أن حدّقت في تصميم المبنى الجامعي باحثة عن لوحة إرشادية تعينها على معرفة المكان، ومشيرة إلى الباب الرئيسي:

  • لننطلق!

جذب شقيقها مقبض الحقيبة، ومشت في محاذاته وهي تتحدث عن نظامها في الجامعة وكيف ستكون!

  • لا صداقات! لا علاقات! لا تحزّبات! ولا جماعات مشبوهة!

وانتبهت بأنّ شقيقها يبعد عنها مسافة ثلاثة أمتار! فالفرحة جعلت خطواتها أكثر خِفّة وسرعة.. فأبطأت السير حتى لَحِق بها، ودخلا معا إلى قسم القبول والتسجيل؛ لإثبات الحضور، واستكمال أوراق الالتحاق في الجامعة. فما كان من الموظف إلّا إخراج ملف الأسماء باحثا عن اسمها، ثم فتح كشفا آخر بأسماء غير المقبولين في الجامعة؛ فرفع رأسه محاولا التغلب على شعوره بالأسى تجاهها، وكيف ستتلقى الصدمة.. تنحنح ثم قال لها:

  • عذرا آنسة خديجة، اسمك في قائمة غير المقبولين، يبدو أنّ من أبلغكم حدث عنده لبس بين المقبولين، وغير المقبولين.

لم تتمالك نفسها من هول الصدمة، وخرجت باكية تاركة حقيبتها، وشقيقها الذي أسرع خلفها مواسيا.. إلّا أنّ جميع كلماته بدت جوفاء خالية من أيّ معنى.. وواصلت البكاء طوال الطريق.. ولم تهدأ إلّا بعد أن ضحك شقيقها عليها بعد سماعه صوتاً صادرا من أنبوبة العصير الفارغة، وهي تشرب بحنقٍ وغيظ.

ضحكت معه، فقال لها:

  • خديجة.. آمني بالقضاء والقدر يا عزيزتي، وأنا أرى أن تعيدي الدراسة حتى تحصلي على نسبة أعلى وتتمكنين من الالتحاق بالجامعة.
  • أعلى من 92%
  • نعم أعلى.

مرّت أيامٌ غالبت فيها دموعها، وهي تشاهد زميلاتها اللواتي يغادرن بيوتهن ليلة السبت إلى الجامعة، فتوارى دموعها، وحزنها، وقلّة حيلتها. والتحقت بتعليم الكبار؛ لتكون أصغر طالبة في الفصل، مع زميلات يكبرنها بعشرات الأعوام؛ وطوال شهر كانت تحكي قصّتها لكل من تتجرأ على سؤالها عن سبب التحاقها بتعليم الكبار! إلى أنّ تأقلمت، أو جفّت دموعها!

وعند انتهاء العام الدارسي، حصلت على نسبة 93% لتعيد التسجيل بنسبتها الجديدة في الجامعة، في تخصص التاريخ، وكانت نسبة القبول قد انخفضت ذلك العام، وفعلا تمّ قبولها، ولتصبح خديجة معلمة تاريخ متميزة.