د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
نظام الأحوال الشخصية السعودي الذي أقره مجلس الوزراء السعودي مُؤخرًا، ليس هو الأحدث بين التشريعات المنظمة لشؤون الأسرة خليجيًا وعربيًا فحسب؛ بل يعد ثورة في تشريعات الأحوال الشخصية على المستوى الخليجي، طبقًا لكثير من الخبراء والمحللين.
لقد حرص المُشرع السعودي على استمداد هذا النظام من أحكام الشريعة القطعية، وبما يُحقق مقاصدها الشرعية، كما حرص على الأخذ بأحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة المواكبة لمستجدات الواقع ومُتغيراته. واستهدف النظام بالدرجة الأولى المُحافظة على استقرار الكيان الأُسَري ودعمه وتحصينه من عوامل الانهيار؛ كونه المكون الأساسي للمجتمع ومن ثم فإنَّ في استقرار الكيان الأُسَري وتحصينه من الفرقة، حماية للنشء وتأمينًا لمستقبله واستقرارًا للمجتمع وعافيته ومناعته، فعائلة سعيدة تعني مجتمعًا سعيدًا ومُستقرًا ومنيعًا.
ومن مظاهر حرص النظام على حماية الكيان الأُسَري وتقويته، ما يتعلق بتحديد سن الزواج بـ18 عامًا؛ فزواج القاصرين لا يقيم أسرة مُتماسكة لقلة الخبرة وعدم التأهل لتحمل المسؤولية. وكذلك تأكيد حق المرأة في نفقة زوجها، فهذا مما يدعم مُستقبل الأسرة والأطفال. كما إن النظام أكد حق المرأة في فسخ عقد الزواج بإرادتها المنفردة، إذا استحالت العشرة وتعذر الوفاق، طبقًا لقوله تعالى "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"؛ وهو ما قرره أيضًا الفقيه المالكي الكبير ابن رشد قبل 8 قرون: القرآن جعل للمرأة حق الخلع في مُقابل حق الطلاق للرجل.
وجاء النظام في أكثر من 250 مادة شملت جميع الأحكام المتعلقة بالخطبة والزواج وحقوق الزوجين وآثار عقد الزواج والنفقة والفرقة بين الزوجين والطلاق والخلع وفسخ عقد الزواج والحضانة وأحكام الولاية والوصاية وأحكام الوصية والتركة والإرث.
وفِي رأي الخبراء أنَّ النظام جاء ضابطًا للسلطة التقديرية للقضاء، محجمًا للاختلافات في الأحكام، ناجزًا في الفصل في المنازعات الأسرية، موضحا للحقوق والواجبات، وهذا الضبط والتحديد والوضوح والحسم، سيكون له أثره الفاعل على معالجة الخلافات الأسرية بسرعة وفاعلية وعدالة ناجزة.
لقد كتبت كثيرًا حول تشريعات الأسرة العربية، وبيّنتُ أنَّ هذه التشريعات ما زالت أسيرة لمواريث فقهية وعادات وتقاليد وأعراف اجتماعية بأكثر منها تعاليم إسلامية، ونحن لا نبخس من جهود فقهائنا العظام، ولا نقلل من احترامنا وتبجيلنا واعتزازنا باجتهاداتهم، لكننا نعتقد أن تلك الاجتهادات إنما ناسبت مجتمعات وعصر غير مجتمعاتنا وعصرنا.
إنَّ وضعية المرأة الأم في تشريعات الأسرة الخليجية والعربية عامة وضعية قلقة، لا تهيئ لبناء جيل قوي متماسك مبدع ومتعاون؛ لذلك طالبت مرارًا بمراجعة هذه التشريعات وإعادة النظر في تشريعات الأحوال الشخصية في ضوء 9 محددات أو ثوابت حاكمة:
أولًا: مقاصد الشريعة العليا الهادفة إلى دعم وتعزيز التماسك الأُسَري باعتباره "المحضن التربوي" الأساسي لتنشئة جيل سوي نفسيًا وصحيًا وعقليًا.
ثانيًا: المواثيق والتشريعات الحقوقية الأممية التي أقرت المُساواة بين الجنسين وحقوق المواطنة المتساوية والتي التزمتها دولنا ووقعت وصادقت عليها.
ثالثًا: نصوص الدساتير العربية وروحها المؤكدة حقوقاً متساوية بين المواطنين والمواطنات.
رابعًا: قيم ومبادئ وروح العصر، ومعطيات الحضارة الحديثة والنافعة في تبني النظام الرقمي وطرق الإثبات الحديثة.
خامسًا: تحولات المجتمعات الخليجية والعربية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
سادسًا: تنامي دور المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، شريكًا فاعلًا كفؤًا للرجل في كافة المناشط التنموية.
سابعًا: مراعاة أن تكون لمصلحة الأطفال الأولوية العليا.
ثامنًا: مراعاة الأعراف والتقاليد الاجتماعية الصالحة.
تاسعًا: المرأة مخلوق مكرم لدى خالقها كالرجل تمامًا "ولقد كرمنا بني آدم".
إننا نبارك للأسرة السعودية هذا الإنجاز التشريعي الذي سيسهم- بإذن الله تعالى- في تعزيز تماسكها وتحصينها واستقرارها.
** كاتب قطري