تساؤلات المسافة.. والاعتبار

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

 

"إن السعادة أو المسرة تعتمد على أنفسنا أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، ويجب أن يتعلم الإنسان "فن المعيشة"، وكيف يكون راضيًا، ولو لم يكن كل شيء حوله وفق ما يتمنى". أحمد أمين.

أحيانًا يتساءل المرء حول ماهية الأخلاق وجدليتها، وما هو مناسب ومعقول والعكس، وأثر ذلك على العلاقات الإنسانية البينية المتواصلة مع الخلق سواء القريب أم البعيد، المرتبط بود أو بمصلحة أو زمالة عمل، وكيفية التعامل وقياس المسافة بين أي علاقة وما هي الاعتبارات المترتبة في حيثياتها ومآلاتها.

وفي زمننا الحاضر نتواصل مع الكثير من البشر، ولو حسبت عدد من تتواصل معهم يوميًا لا تستغرب وصول العدد إلى المائة، هنا أحدثك حتى عن العلاقات المرتبطة بثوانٍ معدودة، تخرج من البيت لتركب سيارتك، فإذا أحدهم يمر بالقرب فيحييك وترد التحية، هنا تبدأ أولى علاقات اليوم بغض النظر عن اعتباراتها الإنسانية. حتى التعامل مع الناس، هناك البعض متعب، وهناك من يتعامل معك بمنطق المصلحة، ويا حبذا المصلحة التي تمتد للخير، إنما أقصد متسلقي العلاقات، وهناك من يرى نفسه أقل من الناس فيبتعد على طريقة "لا ضرر ولا ضرار"، وإراحة الرأس من وجع المقارنة- هنا أقصد نموذجا معينا- وكذلك من الناس من يعتقد أنه محدد النظر وأن كل إشارة للسلام عليه هي شرف لمن يبدأ عليه السلام وتجده متقمصًا دورًا ليس له ولا هو أهل له، وأنه أرفع مقامًا، فيعتقد أن مجرد الاختلاط والتواصل مع "العامة"- كما يسميهم!- فيه تقليل من قدره ويمكن أن يمس بهيبته، وبالطبع مثل هذه النماذج المريضة متواجدة وبكثرة، وأغلبهم صيد سهل للبعض، على طريقة "مال البخيل يأكله العيَّار" (1)!

من الأمور التي أذكرها يحكي لي أحدهم وهو يكتب بالصحافة أنه قبل فترة حصل حدث ما، ورأى أنه من اللياقة والاعتبار الاحتفاء بالحدث، فكانت المعلومات حول الحدث قليلة جدًا، لأسباب معينة، فما كان له وبالوضع الطبيعي إلا أن يتواصل مع أحدهم ممن له علاقة بالحدث، ولما أخذ رقم التواصل، اتصل عليه وبعد التعريف بنفسه وجده متحفظًا حذرًا بشكل غريب، مع أنَّ الأمر لصالحه. عبثًا حاول صديقنا الكاتب استخراج أي معلومة عن الحدث، وبعد محاولات قصيرة استطاع أن يخرج بفائدتين وسط تلكؤ وتحفظ غريب من هذا الشخص، رغم أن الأمر أصلًا كما أسلفت لمصلحته، ثم علم فيما بعد أن الأخ المتلكئ طلب من أحدهم ألا يعطي رقمه لأيِّ أحد!

نموذج من النماذج السلبية التي لا تنفع ولا تضر، ولا تحرك ساكنًا ولا لها نقطة إيجابية، والدليل لو ترى مستوى ما يدير تجده يتجه إلى "الطريق المنحدرة"!

بالطبع الكاتب ندم على الساعة التي رفع فيها الهاتف من أجل التحدث مع ذلك التافه، وبالفعل التواصل معه ليس إلا مضيعة للوقت، واعتقد لو كان يعلم أن الكاتب هو في الحقيقة صديق خاص لمسؤوله الأعلى، لربما دعا الكاتب لفنجان قهوة وممكن أكثر! (هكذا تعودنا من مثل هذه النماذج السلبية)!

أحيانًا هناك نماذج من البشر نحاول الابتعاد عن التعامل معها حفظًا لذواتنا، وحرصًا على نقاء الجو المحيط، مثل هؤلاء عثرة، وعائق يعيق حتى التفاؤل، لذلك الإنسان الحصيف يبتعد عما يؤذيه، فلن نعيش سوى مرة واحدة!

لو تمعّنّا بحياتنا حتى بمنطق التاريخ، هناك من يؤكد أننا لا نكتب حياتنا؛ بل نحن من يعيشها وتكتبنا، ولا أعلم أين ذهب فكر من فكّر بهذا الفكر؟ لربما لديه بديهياته التي استند عليها بتفكيره، لكنها بديهيات جدلية متعارضة معارضة متوافقة متفقة. بالطبع، لا أقصد التلاعب بالمفردات أو رسمها لدواعي مشاعر قد تستند لهذه الألفاظ أو تلاعبها مفرداتيًا، إنما أظن أننا بمشاعرنا الإيجابية المترفعة فوق أية منغصات بإمكاننا كتابة تاريخ حياتنا وفق أبجدياتنا التي نحن نكتبها لا أن تكتبها لنا الحياة التي في اليوم الواحد قد تستقبل كل فصول السنة، علينا كتابة تاريخ حياتنا باللون الأزرق أو الأسود أو الأخضر حتى لو استدعى الأمر كتابتها بلون أحمر، نحن من يكتب الحياة وبأقلامنا وبحسب لون القلم الذي نريد، لا حسب مايريده لنا الغير.

أثناء تحضير هذا المقال، تنبهت لعبارة قصيرة قالتها إليانور روزفلت (2): "كن مرنًا، لكن التزم بمبادئك".

إننا نواجه في الحياة العديد ممن يريدوننا ألا ننحاز للمبادئ؛ بل وفقًا لما يرون، كأنهم أولياء علينا، يسعون لنثر العبث الأخلاقي فوق خطواتنا، ويستغربون لم لا نسعى كما يسعون، ولا نخطو خطوات مشبوهة ليست من قيمنا ولا المبادئ، إنهم يعتقدون أنَّ كل نجاح فشل لهم، حتى لو تبين لك أنَّ ثباتك هو القشة التي تقصم ظهر بعير البعض، تأكد أنك على درب ممهد بالبياض، لا خدوش يعاني منها، ولا ركام ألقى بغباره عليك. ولاشك أن الطمأنينة والسكينة هي أثمن وأغلى الملذات والنعم، والصحة تاج على رؤوس الأصحاء، وما دمت في ستر ولا يطرق بابك، فأنت حزت الدنيا وما فيها. قبل سنوات شاهدت لقاء تلفزيونيًا للممثل الكويتي عبدالحسين عبدالرضا- رحمه الله - وأتذكره جيدًا عندما سألته المذيعة بما معناه: هل أنت غني؟ أجابها: نعم غني لأن لا أحد يطرق باب بيتي، وحكى عن قصته عندما كان مديونًا بملايين الدنانير، وكيف أنه الآن غني لأن لا أحد يطرق بابه.. إنه الستر، سترنا الله وإياكم.

الحياة يا سادة، أشبه باللعبة الخطرة، من يبرع في إدارتها وضبط توازنها، والتريث بين حيثياتها، ممكن أن يسلم وممكن ألا يسلم.. إنها هي سهلة لمن يستسهلها، وصعبة للمتشائم، وأفضل نصيحة هي: "اعقلها وتوكل".

على الإنسان ألا يتخلى عن حلمه قيد أنملة، وأن يسعى لتحقيق أهدافه ولا يلتفت لهواة التثبيط ونشر الإحباط، أما أهل الحسد فأفضل حل لمُواجهتهم هو التجاهل التام ولا كأنهم على ظهر البسيطة.

---------------------------

  1. مثل كويتي شهير، بمعنى أنَّ البخيل يأخذ ماله أو أمواله الذي يضحك عليه ويكون تحت رحمة حيلته.
  2. إليانور روزفلت: زعيمة سياسية أمريكية، كانت السيدة الأولى من 1933م إلى 1945م.