حقوق الإنسان وازدواجية المعايير

 

 

المكرم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري

 

الإنسان أشرف مخلوقات الله وجميع الكائنات خلقت منكبة إلا الإنسان خلقه الله مستقيم الخلقة معتدل البنية وطلب منه تهذيب نفسه تمهيدا لاستقامة السلوك فكل شأنه مستقيما معتدلا.

الإنسان بطبعه مكرم مهما كان اللون أو العرق أو الجنس أو القومية وفي الإسلام (كلكم لآدم وآدم من تراب) هذا من جهة أصل الخلقة أما من جهة السلوك ففي الإسلام (إنما النَّاس مؤمن تقي أو فاجر شقي)، وفي سبيل تكريس حقوق الإنسان منع العدوان عليه عدوانا نفسيا بجرحه بكلمات نابية أو غمزه أو لمزه أو تحقيره وبلغ الأمر مداه أن أبطل فقهاء الإسلام وضوء وصوم من اغتاب أو سخر أو احتقر آخر.

وحرَّم الإسلام العدوان على الإنسان عدوانا حسيا بإزهاق روحه أو سفك دمه دون موجب  ففي القرآن حكم الخلود في النَّار على من قتل مسلماً ولم يتب (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)، ولم يكن الغضب والخلود على من يقتل مسلما فقط بل الغضب حتى على من يُؤذي غير المسلم ففي الحديث (من آذى ذميًا لم يشم رائحة الجنة) وتلك مبادئ حقوقية رأت النور واقعا عمليا معايشا في أزمنة مختلفة ومواقع متعددة ويكفي أنها مبدأ أمر الله به وأوجبه على عباده.

حق الحياة وحق الأمن والاستقرار في الأوطان من أوجب الحقوق ومن هنا فقد ورد في الحديث (من روع مسلما روعه الله يوم القيامة) وفي المقابل (من آذى ذميًا لم يشم رائحة الجنة)، إنه اهتمام بالأمن النفسي والراحة الشخصية قبل الاهتمام بالأمن الحسي. تواطأ العالم عبر منظماته الإقليمية والدولية على ضرورة احترام حقوق الإنسان ووقع ممثلو الدول على الاتفاقيات كما صارت هناك أيام يحتفى فيها بمبدأ حقوق الإنسان. العالم الغربي الذي نصّب نفسه حامي حمى حقوق الإنسان؛ أكان رجلا أو امرأة طفلًا أو بالغًا عاقلًا يسوق نفسه أنه المرجعية والكعبة والقصد في هذه الحقوق وكأنه البئر التي منها يستقي السبعة أو الثمانية مليارات نسمة في مجال حقوق الإنسان. العالم الغربي الموسوم بالتحضر يرسم خطط حماية حقوق الإنسان والمرأة خاصة خاصة ويسن القوانين والتشريعات ويراقب دول العالم الثالث والعالم الإسلامي خاصة في مدى الالتزام بمواثيق حقوق الإنسان. تصدر بعض دول العالم الكبير المتحضر تقارير آخر كل سنة تعدد فيه الدول التي تنتهك حقوق الإنسان والمرأة خاصة وتضغط في ذلك وترسل مطالبها من أجل ما تسميه حقوق الإنسان.

الغريب أنَّ هذه الدول تنصب نفسها ميزان عدل وأجهزة رصد (كاميرا) دقيقة وتجعل من نفسها حارسا على المبادئ فتصدر تقاريرها عن الحريات في الدين والتعبير والمعارضة السياسية وحرية الصحافة وحرية الفكر والنقد  كما تتعمق في شأن الدول وخاصة شأن المرأة المنسجمة مع الشريعة الإسلامية أو المتوائمة مع عادات وأعراف مجتمعها فتحاول تلك الدول الكبرى إحداث حالة طلاق بين المرأة ومبادئ ذلك المجتمع بدعوى حماية الحق وكأنها تقوم اعوجاجًا؟

العالم الغربي يندد كثيرًا بإقحام السياسة في الرياضة بذريعة أن الرياضة تقرب بين أمم الأرض فإذا رفض مسلم مقابلة إسرائيلي في ملعب أو انسحب من مباراة ثار الغرب منددا بهذا التصرف ولكن شاهدنا في إطار أزمة روسيا وأوكرانيا إلغاء مباريات بين روسيا وفرق غربية وطرد لاعبين روس فكيف لا يكون هذا من قبيل إقحام السياسة في الرياضة وإذا صدر من مسلم يكون ذلك، من باب إقحام السياسة في الرياضة؟ وبلغ الأمر أن تم تسيس سائر الفرق الرياضية فينزل اللاعبون وقد ارتدوا أعلام أوكرانيا وهتفوا باسم أوكرانيا ولوحوا بأعلام أوكرانيا وهو أمر يدل على تعاطف مع تلك الدولة المنكوبة المصابة التي تعاني ولكن لماذا ينتقد الغربيون تعاطف الناس مع الفلسطينيين في الملاعب ولماذا رفع الأعلام الفلسطينية أو ترديد الأناشيد الفلسطينية يناقض روح الرياضة ويؤدي إلى تسييسها؟

تقارير بعض الدول تخرج سنويًا فيتم تسليطها على دول العالم الثالث أو الإسلامي، فتنتقد أوضاع الأقليات الدينية وحرية الشعائر بينما في ذات العالم المتحضر يستخدم الساسة مصطلحات ازدراء الدين الإسلامي بوصفه بالإرهاب جملة وتفصيلا، كما تتم ملاحقة المحجبات لمجرد قطعة قماش وغطاء رأس عند لابسها دين وعقيدة بينما في بلاد العالم الإسلامي لا يتم إكراه غير المسلمات ومن مختلف الأديان على ارتداء الحجاب؟ فأين حقوق الإنسان؟ نساء لم يسمح لهن بالعبور واللجوء والفرار وتمَّ عزلهن لأنهن مسلمات فقط لم يرتكبن ذنباً ولنتصور لو وقع هذا من أناس مسلمين عاديين كيف سيصدر الغرب تقاريره؟ بل وسيدين الدولة ويحملها مسؤولية ذلك؟ بينما في أزمة روسيا أوكرانيا تتم تلك العنصرية على الحدود عن رأي دولة وليس عن رأي فرد؟ وتمَّ فرز الفارين على الحدود فمن كان شرقيًا أو من العالم الثالث غير أشقر ولا من بني الأصفر أو الأحمر تم عزله وتأخيره عن منحه حق اللجوء ومن كان أبيض البشرة أحمر الجلد متوردا حمرة تم السماح له بالعبور؟ فهل هذا من المساواة في حقوق الإنسان؟ شاهدنا قنوات فضائية تتألم أن تكون الحرب في ديار أبيض أو أحمر اللون أو أصفره ويتألمون أن تقع بين مسيحيين؟ ويتأسفون أن تكون خارج العالم الثالث؟ فهل هذا من المساواة في حقوق الإنسان؟

نقلت وكالات الأنباء تصاريح عدة تفيد بأنه كيف تقع هذه الأزمة في عالم مسيحي؟ وكيف تقع في عالم الغرب وبين أصحاب عيون زرقاء وشعر أشقر؟ وهذا كله ينم عن عنصرية وكأن وقوعها أو تسبب الغرب في وقوعها في العالم الثالث لا بأس به فهي تقع بين أناس من الدرجة الثانية؟ العالم كله ووسائل إعلامه قائم غير قاعد بسبب هذه الحرب المشؤومة غير المرغوب فيها ولكن لماذا لا يقوم العالم من أجل فلسطين ولبنان والعراق إذا ما تعرضت لحروب وغارات وقصف مكثف واستخدام لقنابل محرمة أكانت عناقيد غضب أو عناقيد عنب؟

العالم المتحضر يؤوي كثيرا ممن يصفهم بالمضطهدين السياسيين من بعض دولنا ويخصص لهم أبواقا يهاجمون من خلالها دولهم ويمنحهم الحماية من المساءلة وهو لا يفعل ذلك من باب الحقوق بل يريدهم حصان طروادة يحقق من خلالهم مآربه في التدخل في شؤون تلك الدول ويحاول فرض شروطه وهذا ضد حقوق الإنسان وليس من صميم حقوق الإنسان. وبعض دول العالم المتحضر تؤوي كتابا وصحافيين بذريعة حمايتهم ومنحهم حرية التعبير التي فقدوها في بلد من بلدانهم وكم يغتر أناس بهذه الطريقة والحقيقة أن هناك دولا تنتهك حقوق الإنسان وتكسر العظام وتغير على من جاورها وتحتل أراض من عقود وعقود ومع ذلك تنبري دول حق النقض مستخدمة حق النقض لكي لا يفرض عليها عقوبات فأين حقوق الإنسان وازدواجية المعايير واضحة بينة؟

بعض تلك الدول الغربية تصدر تقارير عن وضع ممارسة حرية الأديان في بعض الدول بينما هي تدافع عن إسرائيل عندما تعلن رسميا وفي نظامها الأساسي أو دستورها يهودية الدولة؟ بالرغم من وجود السكان الأصليين المسلمين والمسيحيين والدروز؟ بينما الغرب ينتقد بعض دول العالم الإسلامي عندما ينص النظام الأساسي أو الدستور لتلك الدول بأن دين الدولة الإسلام وأن الشريعة الإسلامية من مصادر التشريع؟ على أن بعض زعماء الغرب أكد بأن الرب أتاه فأمره بغزو العراق وأن الرب بارك ذلك ولنتصور لو أن زعيما مسلما استخدم تلك المصطلحات لقيل إنه طائفي؟ بعض إعلام الدول الغربية يحمل الصليب شعارًا لها، فكيف لو عمّ الهلال في أكثر دول العالم الإسلامي؟ ربما سيصدر تقرير بأن هذه الدول تتجه للتشدد الإسلامي؟! ليست المشكلة في القوانين والتشريعات وإنما في ازدواجية المعايير وانتقاء تطبيقاتها. ولقد كشفت الأزمة الروسية الأوكرانية كثيرًا من المستور ولعلها تزيل غبش من أعجب بدساتير الغرب من عالمنا فظنها المورد من الظمأ والأمن من الخوف.

إن الذين يتخذون من بعض دول الغرب ملاذا تندلع من خلاله ألسنتهم على بلدانهم يتكئوون على حائط مائل من طين متهالك وهذه الدول تتخذهم مجرد مطية لعلها عن طريقهم تحقق تدخلا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في بلدانهم أما حقوق الإنسان فهو شعار وسيف يتم إشهاره عند اللزوم. ولعل المتغربين باتوا يدركون الحقيقة ولعل الأزمة الحالية كشفت بعضا من الازدواجية. عموما الأزمات تؤثر سلبا على جميع العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والحروب مؤذية عابر أذاها للقارات. والدماء يجب أن تصان مهما كان الدين أو العرق أو الجنس أو القومية.

إنَّ الأفضل الدخول في السلم كافة وحل كل إشكال بالجلوس على طاولة الحوار فحوار الكلمة والعقل خير كثير وحوار الرشاش والمدفع يعقبه شر مستطير.