علي بن سالم كفيتان
لطالما احتفظت النظم الملكية- القائمة على سلطة الفرد المدعوم بشرعية القبيلة- بكثير من الميزات التي ضمنت لها ولاء النَّاس، ولم تنخرط بشكل مطلق في أتون الرأسمالية التي تعتبِر الفرد عبارة عن "نحلة شغالة في خلية النحل" تُدافع عنها بشراسة وتعمل جاهدة لتنظيفها وملء فراغاتها بالعسل المخصص لعدد محدود من أرباب العمل.
وقد أدرك الملكيون المخضرمون أنَّ شرعيتهم يستمدونها من جملة الهبات والعطايا والتنازلات للمجتمع ويعون تمامًا أنَّ مبادئ الرأسمالية الفجّة تقوض أنظمتهم وتسرِّع بانهيارها؛ لذلك ظلوا ممسكين بالعصا من الوسط. وشكلت القبيلة حجر الأساس للكثير من المجتمعات البشرية وفي مختلف بقاع الدنيا، واستلهمت سيادتها من مجموعة أعراف اتفق عليها الناس؛ لذلك ظل هذا النظام يقاوم وانطلق من سلطة الشيخ التقليدي في الخيمة، إلى ردهات القصور والحياة المخملية. وأثناء تلك الرحلة التي اختصرت الكثير من الحقب، ظل الملكيون مدركين لحرق المراحل، محتفظين بشرعيتهم، القائمة على إرضاء الإنسان البسيط والاستماع لمطالبه وتحقيق أمانيه، ولم يقفزوا في الظلام. ففي هذا النظام قد يصبح ابن الراعي أو الصياد أو المزارع تاجرًا معروفًا أو مسؤولًا كبيرًا؛ لأنَّ من يقود القاطرة مدرك أن شرعيته تنطلق من هؤلاء الذين سيقفون خلفه، ويدفعون الثمن غاليًا لبقاء العرش، في حين سجل الزمن وفي أكثر من مناسبة مدى جُبن رأس المال وخذلانه للأنظمة في فترات مفصلية، وهنا يقف من هو على رأس القافلة حائرًا بين مهادنة رأس المال الجبان، أو الذهاب لمراضاة القاعدة العريضة لسلطته المتمثلة في السواد الأعظم من الناس.
هنا المواجهة تكون شرسة وغالبًا ما يوازن من بيده الأمر بين جشع رأس المال وطموحات وآمال الإنسان البسيط في العيش الكريم؛ فلا يمكن لنظام أن يستغني عن دورة رأس المال، ولا يمكن لسلطة أن تستغني عن شرعيتها المستمدة من النَّاس، ويقُود النظام الرأسمالي لتعظيم مبدأ الضرائب، بحيث يصبح الفرد- كما قلنا- نحلة في الخلية، جُل طموحه الوصول للقمة العيش. وفي ظل الصراع من أجل البقاء، تصبح كسرة الخبز هي الهدف الأسمى للحياة، وغالبًا ما يروج هذا النظام الجائر لسلوكياته بتحسين الخدمات وتوفير الرعاية الصحية والتعليم، في مقابل إفقار الفرد عبر جعله يلهث خلف فتات الأمور مما يولد بيئة يائسة ومحبطة.
أثبتت الأيام أنَّ الأنظمة الملكية في عالمنا العربي قدمت خيارات أفضل من الأنظمة الجمهورية، فطوال العقود الماضية استقرت الأنظمة الملكية، ونال الفرد فيها نصيبًا جيدًا من الرعاية، وأصبح شريكًا حقيقيًا في التنمية، عكس ما يُروَّج له في الآونة الأخيرة حول الفساد والمحسوبية، ونحن هنا لا نُنكر وجودهما، لكن لكم أن تقارنوا بين النظامين الملكي والجمهوري في عالمنا العربي في هذا المضمار؛ ففي الوقت الذي يحظى فيه الفرد تحت ظل بعض الأنظمة الملكية بأعلى مستوى دخل في العالم، ظلت بعض الأنظمة الجمهورية تُقدم الفقر والاستبداد والهيمنة والطغيان؛ لذلك انهارت أو أعادت تشكيل نفسها، بعد ما بات يعرف بـ"الربيع العربي" وظل الفرد يرزح تحت خط الفقر والهجرة والحرمان.
ونعتقدُ أنَّ الأنظمة الملكية يتم جرها لمصير مشابه للأسف، في ظل تعظيم أهمية رأس المال على حساب الفرد، وإعادة جدولة الاقتصاد دون مُقدمات أو ممكنات، بحيث يصبح نظامًا رأسماليًا مجردًا من الرحمة، وبهذا يتم نزع أحد أهم مرتكزات النظم الملكية- التي وصفناها بالناجحة- إلى حد ما، مقارنة بالأنظمة الجمهورية التي تساقطت كأحجار الدومينو، دون مقدمات أو حتى رسم صورة للنهايات، لهذا نرى أهمية تمسُّك الأنظمة الملكية بأسس الرحمة والمودة بين الحاكم والمحكوم، وعدم الذهاب بعيدًا مع سلطة المال؛ فهي تترك ظهر السلطة مكشوفًا وتكون أول المنسحبين من الساحة.
ختامًا.. يُمكننا القول بأهمية تطوير النظم الملكية مع الحفاظ على روحها الإنساني وإبقاء حبل المودة بين الحاكم والمحكوم متينًا، وأن تتضمن الاستراتيجيات التي ترسمها تلك الأنظمة لمراحل قادمة عتبة سياسية، فلا يمكننا الحديث فقط عن النواحي الاقتصادية والاجتماعية وإغفال الجانب السياسي؛ حيث إنَّ ماهية الصورة يجب أن تكون واضحة بكل زواياها، من خلال تمكين المجتمع من المشاركة الحقيقية في المستقبل السياسي عبر منح البرلمانات صلاحيات واسعة في الرقابة والتشريع؛ بما يتفق مع طموحات وآمال تلك المجتمعات.