"جدلية المواطن والسلطة".. بين النار والنور (1- 3)

 

د. مجدي العفيفي

تؤكد تجربتي الصحفية المدثرة بالفكر والتأمل، والمشبعة بلغة الأعماق البعيدة في فهم جوهر الإنسان والزمان والمكان، كعوامل ثلاثة حاكمة في التطور البشري، أن الخليج- خاصة في مدنه التي تجادل الزمن- يستند بحاضره على حضارة عريقة، وجذور دوله الأصلية والأصيلة ليست في الهواء، وأنه كمنطقة حيوية في كينونتها تكسر الصورة التقليدية المبتسرة التي روج لها المغرضون، لا سيما من يسمون المستشرقون الجدد، وهم يتوارون خلف أقنعة ذات مآرب أخرى، من أن الخليج ليس إلا حقول طاقة وآبار نفط، وقد ضرب الحقد على سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم، ولا تزال عليها أكنة فلا يفقهون ولن يفقهوا أن تجليات الروح الإنسانية هي الأقوى أثرًا، والأبقى عمرًا، وأن صوت الحضارة في المنطقة أصدق إنباءً وأنباءً وأن منظومة القيم والتحولات مستمرة في تشكيلاتها

***

أقول قولي هذا، وأنا أقرأ قراءة كاشفة، شرائح من سفر واحد من رجالات الفكر في الخليج، هو الدكتور أنور بن محمد الرواس، ليس فقط لأنه رجل إعلام يتحرك في نفس الدائرة التي نصهل فيها منذ حوالي نصف القرن.. وليس فقط لأنه أستاذ جامعي للإعلام السياسي بجامعة السلطان قابوس، بل أيضا لأنه رجل فكر، لديه رسالة، وعنده رؤية ورؤيا، ويمتلك خطابا وأسلوبية، ولديه الأدوات الفنية التي تترجم أطروحاته.تحملها صفحات كتابه "جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع". ورجل الفكر في منطقة الخليج هو تعبير يثير ظلالا من التعجب والإعجاب أيضا، ذلكم ان الخليج ليس نفطا فقط بل هو أكبر وأكثر من ذلك، بل هو من الذين ينتقدون الذات طبقا لمقولة الشاعر البحريني عبد الرجمن رفيع (ما دمت نفطيا فعزك لا يدوم).

 ***

ليس فقط لأن د. أنور الرواس صديق حميم.. وليس فقط لأنه رجل إعلام يتحرك في نفس الدائرة التي أصهل فيها منذ حوالي نصف القرن، وليس فقط لأنه أستاذ جامعي للإعلام السياسي، والإعلام أحد أكبر عناوين هذه الحقبة من العصر، والسياسة صارت أوسع لغاته وأكثرها انتشارا.. بل أيضا لأنه رجل فكر، لديه رسالة، لديه فكرة، لديه خطاب، ولديه الأدوات الفنية التي تترجم أطروحاته.

ولقد عرفت د. أنور الرواس كشخصية قبل أن أعرفه كشخص، من خلال كتاباته في الصحف والدوريات، ومن خلال مشاركاته في الندوات والمؤتمرات، وتألقت العلاقة الإنسانية في بعدها الرابع حين كنا نحفر معا في طبقات الوعي والتفكير في اللَّامفكَّر فيه، ثم اتخذت علميا وعمليا شكلا أكثر عمقا حين بدأت أحرضه تحريضا إيجابيا على تقديم مشروعه الفكري، وقد تبلورت سماته, وتشكلت قسماته، لاسيما في العقود الثلاثة الماضية، وأنا على ذلكم من الشاهدين بحكم معيشتي الحياتية ومعايشتي الصحفية والفكرية المتواصلة في مسقط (حوالي ثلاثين عامًا) ولا تزال المعايشة والمتابعة في العلاقة.. متوهجة، رغم قسوة حدود الجغرافيا إلا قليلا.

 ***

تجلت الإنبثاقة الأولى في فكر د. أنور الرواس وهو يطل من شرفة الألفية الثالثة، فإذا قلمه يلتقط شواهد اجتماعية، ومشاهد سياسية، ونظرات إعلامية، وقضايا اقتصادية وهموما ثقافية، ويتجاوز الإطار القُطْري ليمتد منظوره إلى الفضاءات الإقليمية والعالمية مشتبكا معها بعمانيته وعروبيته وشرقيته كمواطن عالمي، وككاتب له مرتكزاته في الرؤية والرؤيا.

لم يكن من قبيل المصادفة أن تتزامن كتابات أنور الرواس التي تنهل من الواقع وقراءاته الكاشفة لهذا الواقع، مع عقدين من الزمن الحى المشحون بالصراعات والمسكون بالتحولات المحلية والإقليمية والدولية، ويتخذ من الكلمة سبيلا إلى المتلقي على اختلاف مشاربه وتباين أطيافه، وتمايز شرائحه، محققا معادلا موضوعيا بين الذات والموضوع، وراصدا ثنائية المواطن والسلطة، بالمعنى الشامل للسلطة وأشكالها المتعددة، فراح يقلب في أرضية العلاقة بين المواطن والسلطة، باحثا عن الحق، وصولا إلى الحقيقة، كهدف كبير لكل صاحب فكر وقلم ورؤية.

تكشف قراءة المؤلف عبر كتابه هذا "جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع"، أنه أحد الأشهاد على هذا العصر الذي تعيشه عمان منذ العام 1970 بشهادته العينية والفؤادية، لذا يعد شاهدًا وشهيدًا على العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطن، لاسيما أن رؤيته المطروحة تستبطن الأمور بمبدأ الرغبة ومبدأ الواقع معا، وهو ما يجعل شهادته شهادة غير مجروحة، وأبدا لم تكن هذه المقالات المنثورة عبر زمان نشرها وحدات منفصلة، إنما هي تيار متصل من الأفكار المتولدة عن لحن واحد يعزفه د. أنور الرواس، بأنغام متعددة، مصدرها قيثارة فكرية متناسجة الأبعاد، متعددة المرايا، متجاورة الخيوط، متحاورة الخطوط.

(5)

تتراءى لي أكثر من دلالة يبوح بها هذا الكتاب:

الدلالة الأولى: أن مؤلفه أستاذ جامعي، لم يشأ أن تظل أطروحاته حبيسة الحرم الجامعي، أو تبقى أفكاره رهينة أسوار الجامعة، بل هي تجاوز هذا الفضاء إلى فضاءات المجتمع، وهذه مقدرة لا تتوفر كثيرا للأكاديميين، ومن ثم كان السعي من د. أنور الرواس إلى إجراء وصلات حوار، وتواصل مستمر بين الفكر المنهجي، وواقع الناس الذين من أجلهم يبث كتاباته، يعززه في ذلك أنه أستاذ للإعلام السياسي، والإعلام والسياسة لا ينفصلأن بصورة أو بأخرى، لكن الدكتور الرواس يبدو حريصا على تحقق مبدأ مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع بلاغته، وقدرته على الإبلاغ والتبليغ عبر الكلمة المقروءة، بعمرها الأطول، وتأثيرها الأقوى، وطاقتها الأغزر، ومقدرتها على استبقاء الجوهري والأصيل.

الدلالة الثانية: د. أنور الرواس يؤمن بأهمية دور الكاتب «فالكاتب والمثقف و الأكاديمي جزء من هذا المجتمع، يقع على عاتقهم إبراز قضايا مجتمعهم للرأي العام من خلال الوسائل المتاحة، كالندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام المختلفة، ويدرك جيدا أن«الكتابة في عصرنا الحالي أصبحت كالترياق لا يمكن الاستغناء عنها، ومن يرى عكس ذلك فإنما يحجب أفقه، ويسد عن نفسه منافذ المعرفة المتاحة» على حد تعبيره.

ومثل هذه الرؤية لدور المثقف تنسجم مع كثير من الرؤى التي يطرحها رجالات الفكر في كل زمان ومكان، فالكتابة ليست وظيفة، والكاتب "يؤدى دورًا لم يكلفه به أحد"، طبقًا لإدوارد سعيد لكنه الإيمان بدور الكلمة ودور كاتبها، ولو يعرف الذين يكتبون أين تقع كلماتهم من نفوس الناس، لارتجفت الأقلام في أيديهم، وترددوا كثيرا قبل أن يقولوا شيئا، ولكن هذا لا يحدث إلا قليلا، عندما تواجهنا الحقيقة فجأة، فنعرف أن «كلماتنا كانت أحجارا سقطت على ماء ساكن فهزته ثم سكن كل شيء، أو كانت بذورا استقرت في أرض واسعة مسطحة كانها أكف متعطشة تنتظر، أو كانت سموما جاءت بعدها النهاية» على حد توصيف أنيس منصور، وتفيض الذاكرة الإنسانية بإشارات كثيرة عن دور الكلمة وخطورتها وقوتها وطاقتها، فهي نور ونار، كلمة تعمر وكلمة تدمر، كلمة تضيء وأخرى تُظلم، كلمة تعدل وأخرى تَظلم، كلمة تحيي وأخرى تميت، ولكم في الكلمات شواهد يا أولى الأقلام.

ويؤمن د. أنور الرواس إيمانًا كبيرًا بدور الكتابة في التنوير والتغيير والتطوير انطلاقا من قوله: «التغيير أصبح مطلبا أساسيا في عالم اليوم، عالم التطورات السريعة، عالم لا تتوقف حركته ومستجداته وحيويته، والتغيير سنة من سنن الكون، ولا يمكن لأحد إلا ويرى في ذلك استمرارا للحياة». ويرى الكاتب أن ثمة وجوبية للتغيير الذي «ينبغي أن يتوجه من حيث المبدأ إلى الإنسان وكل ما يتفاعل معه، وينطلق من الإنسان، فالإنسان هو المحور الأساسي لعملية التغيير وهو في الوقت نفسه غايتها النهائية» والثقافة الحوارية في منظوره هي «الطاقة التي تفتت القيود حتى يزداد قبول الناس للتغيير كلما أتيحت لهم فرصة أكبر لمناقشته والتحاور بشأنه، على أن هناك مشروطية لإحداث التغيير إذ «لابد أن نغير ما في أنفسنا وأفكارنا ومناهجنا إلى الأفضل، مادام التغيير سنة من سنن الحياة، ولابد أن ننطلق بذلك من حاجاتنا وقناعتنا الذاتية، وإلا فإن التغيير سيأخذنا إلى الوراء بدلا من التقدم نحو الأمام».

ونتواصل مع سردية جدلية المواطن والسلطة، إن كان في العمر بقية.