حمد بن سالم العلوي
جعل الله تعالى صلاح الأمة في وسطيتها لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" البقرة (143)، وقال تعالى في الوسطية كذلك: "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً" الإسراء (29) وقال العزيز الحكيم: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" آل عمران (159)، وحتى ضربات القلب تكون بين البسط والقبض، وليست سرمدية على نظام واحد، وإلا توقفت الحياة البشرية.
إذن نواميس الحياة ستظل قائمة على الدستور الرباني الرصين، ولا يجوز أن يكون أي شيء آخر قدوتنا، ونحن الأعلون في الأرض بالاعتماد على الله.. وبالتوكل عليه، ليس كما نقول نحن عن أنفسنا، ولكن كما وصفنا الله بذلك، والأخذ بالأسباب التي رسمها لنا رب العزة والجلال أمر واجب، إذن؛ تغيير سلوك الناس بعد نصف قرن بجرة قلم جد مستحيل.
ونقل الناس من النَّقيض إلى النَّقيض، فذلك الذي يصعب عليهم تقبله، لقد تعود الناس- على الأقل في عُمان- على بسط يد الحكومة بالعطاء، ولو بالقليل الدائم، ولكن أن تشتعل الدنيا من حولهم بالرسوم والضرائب دون سابق إنذار، فقط إتكاءً على الجوائح الوقتية مثل جائحة انخفاض سعر النفط وجائحة كورونا، فذلك الذي يعترض عليه النَّاس اليوم؛ إذ إن مرور 50 عامًا عليهم دون ضرائب ورسوم كبيرة، فهذا يسمى نمط حياة تم التكيف معه، وذلك رغم محدودية الدخل بالنسبة للكثير من السكان، وأن تكون هناك خدمات مدعومة مثل الكهرباء والمياه، ثم تتلاشى يد البسط والعطاء وتحل محلها يد القبض وحدها، ولم يكن في المُقابل أي تغيير يذكر في الدخل بشكل عام، وقد رافق ذلك غلاء في الأسواق المحلية، لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير على الناس، هو بيروقراطية الإدارة المملة، مثل مسألة "روح وتعال" فظلت كما هي.
وقد زاد على الناس صعوبة التعامل فوق مسألة "روح وتعال"، فكان الإنسان يدفع ريالًا واحدًا فقط إذا أراد أن يُوثق شيئًا ما في الكاتب بالعدل- على سبيل المثال-، فصارت الوكالات تسعّر اليوم بحسب الأهمية، حتى أصبحت بآلاف الريالات، ولم يستثنى الأيتام من شر الرسوم المستطيرة، فخلق هذا الأمر مأساة؛ بل مآسي جمة فوق مأساة فقدهم لعائلهم، فوُضع الناس سواسية كأسنان المشط أمام تسعيرة الحاسب الآلي، بحيث لا يُنظر إلى ضعيف وقوي، ولا فقير وغني، فالمساواة لا تعني العدل هنا، فهناك أسر توفي عنها عائلها، فأوصى قبل الوفاة بوكيل من خارج الأسرة، وكان قد سجل بعض الأراضي والعقارات باسمه، وهي لإخوانه وبعض أهله، وعندما جيء لنقل المُلك إلى أهله، دخل الأمر في شرنقة شروط الرسوم في الكاتب بالعدل، وكادت الرسوم أن تصل إلى 5 آلاف من الريالات أو يزيد، فعندما جيء بحساب عدد الورثة بحسب الفرد، تعاظمت الرسوم أكثر وأكثر، واضطرت الأسرة أن تنتظر حتى يكبر أحد الأبناء، ومع ذلك لم يسلموا من عُسر الرسوم، إلا أنها كانت أرحم من لو أنها سجلت باسم الوكيل الشرعي الموصى به.
وفي موقف آخر، تأتي وزارة العمل، وتلغي تدرجات الرواتب في القطاع الخاص، ودون أن تضع ضوابط يمنع تلاعب الشركات بمصائر الناس، فصارت تُفصل الناس بالجملة من عملهم، والذرائع كثيرة مع وجود ثغرات في النظام، فطُرد العامل العُماني والإتيان بآخر بديل، وإن كان عُمانيًا أيضًا، ولكنه الأرخص راتبًا؛ كونه جديدًا على الوظيفة من ذلك الذي رفع الترقي راتبه خلال الأعوام الماضية، ورمي بالناس في الشوارع تحت ذرائع كثيرة، ودعست الشركات على الإنسانية وحقوق الناس، وخلقت بذلك التصرف رأيا عاما ناقما على الدولة، وتوقفت الحلول، وأخذ التقاضي أشهر طويلة؛ بل سنوات، والناس في ضياع هم وأسرهم، والحلول البطيئة تزيد من تأزم أحوالهم المعيشية.
وهناك مرابض أخرى تحيق بهذا المواطن، فعلى سبيل المثال يتفاجأ الناس بقانون الإسكان يقتل الأمل في النفوس، فيلغي التملك المستقل بين الزوجة والزوج، ويشترط 40 عاماً دون زواج لغرض تملك قطعة أرض سكنية مُستقلة بالفرد، ولم تعد قطعة الأرض حقاً مكتسباً كما هي المواطنة حق، وإنما أصبحت مِنة ومدفوعة الثمن كذلك، وجرى مؤخرًا فرض شرط عدم البيع إلا بعد البناء، ولم يأخذوا في الاعتبار أنَّ هذا الإنسان الذي صار له سنين وسنين ينتظر منحه قطعة أرض، فإنه قد استعجل الأمر، وأخذ قرضاً من البنك واشترى أرضاً أو مسكناً جاهزاً، وذلك على أمل أن يبيع الأرض التي سيحصل عليها في المستقبل، ويغطي الدّين الذي استعجله على نفسه، فخرجوا عليه بهذه البدعة الغريبة والتي لم يألفها العُمانيون من قبل، وكان الوضع سابقًا يُقرُّ التصرف في الأراضي بالبيع.
إنَّ منع بيع الأراضي قبل البناء سيخلق أزمة للنَّاس، وسيتسبب في شح الدخل من خلال تداول العقار، وغلق مكاتب سمسرة الأراضي، فكانت الأرض تتداول في بورصة الأراضي، وتباع مرات عديدة، ويدرُّ ذلك أموالاً كثيرة على الخزانة العامة، وفي نفس الوقت يسترزق أناس كثر من هذه الحركة، وهنا نتساءل أين دور الهيئة الاستشارية التي أمر بها جلالة السلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- في إحدى جلسات مجلس الوزراء، وقد فرحنا بها، وتفاءلنا أنَّه في وجود هذه الهيئة، لن تتخذ قرارات غير مدروسة!
إن القرارات الحكيمة يجب ألا تكون مجرد قرارات إجرائية وحسب، وإنما يجب أن تُمحّص من كافة الجوانب والأوجه، ويجب ألا تُغفل فيها الجوانب ذات التقدير الأمني، وارتداداتها سلبًا أو إيجابًا على الأمن القومي للبلاد، وتأثيراتها على مزاج الرأي العام. فعلى سبيل المثال؛ قد نرى حماسًا كبيرًا من بعض المسؤولين في اتخاذ القرارات، عندما يلمع أمامهم بريق المال، فقد ينسيهم النظر إلى الانعكاسات الخطيرة على الأمن الوطني، وما قد يلبس من غموض على البعض، فهناك أمور ظاهرها فيه الخير، ولكن في باطنها الشّر المستطير، وقد يحدث الكثير من التشابه في المظهر، ولكن هناك ارتدادات خطيرة على الأمن الوطني، أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وحتى الأمن السياسي، وقد خُضنا بعض التجارب في الماضي، وكان هناك الدّس الخبيث بهدف التعطيل، إذن؛ يجب أن يعطى الرأي لكل أصحاب الاختصاص، وذلك قبل الإقدام على اتخاذ القرارات الكبيرة والاستراتيجية.
ولنا رجاء في أصحاب القرار؛ أن يمعنوا النظر في القرارات الكبيرة، وخاصة عند تعيين المسؤولين الإستراتيجيين والقياديين في الإدارات العليا، وأن يراعوا بالضرورة عند اختيار الشخصيات للمناصب العليا، وأن يكونوا بفكرهم في هذا الزمن المعاش، وألا تتعدى نظرتهم وأهدافهم أبعد من خمس إلى عشر سنوات قادمة؛ لأننا حقيقة اصطدمنا بمسؤولين لهم رؤية بعيدة جداً، فلا يستطيع المجتمع العُماني أن يُواكبها أو حتى يتفهمها، مثل النصيحة بعدم الزواج قبل أربعين عامًا، حتى يستطيع الإنسان تملك قطعة أرض سكنية، فبدلاً من أن تكون الأنظمة والقوانين في خدمة الإنسان، تحتم على الإنسان أن يُكيّف نفسه مع قوانين ربما وجدت للقرن القادم، ومثل هؤلاء المسؤولين يعتبرون سابقين لزمنهم بعقود كثيرة، وفكرهم أكثر تقدمًا من فكر الشعب العُماني، وأنهم يسبقون المجتمع بعقود؛ لذلك نجد قراراتهم غير مفهومة لنا، ولا تخدمنا بشيء في الوقت الراهن، ونجد صعوبة في مسايرة قراراتهم.