الأخصائي الاجتماعي

 

عبدالله الفارسي

ومضة أمل، وصلني خبر مفاده أنَّ إدارة العمل بمُحافظة جنوب الشرقية عرضت منذ أيام وظيفة سائق، وتقدم إليها أكثر من 1800 مُتقدم، وتمَّ فرزهم حسب الشروط الصارمة المحددة للوظيفة إلى 220 متقدمًا، في حين أنَّ المطلوب واحد فقط!

مُعظم المُتقدمين كانوا من حملة الدبلوم العالي، وبعضهم جامعيين ولله الحمد. هذا نموذج من الأخبار المُبهجة التي تفتح شهيتنا للحياة وتمنحنا إصرارًا ورغبة في البقاء!

ذات نهار مشمس استدعاني الأخصائي الاجتماعي المدرسي، انطلقت إلى المدرسة، دلفتُ من بوابتها السوداء المزعجة، وسألت نفسي: لماذا دائمًا هذا اللون النشاز يتقدَّم منارات العلم لدينا، لماذا يُقدّس هولاء البشر السواد ويُباركون العتمة؟ تركتُ الجواب لشطحاتي المُتراكمة، وأوهامي المتكدسة!

"أين مكتب الأخصائي الاجتماعي؟" سألت أحدهم.. "الباب الثاني على يمينك مُباشرة"، أحدهم واصفًا ومُشيرًا بسبابته الطويلة ذات ظفرٍ نسي أن يقصه منذ أمد ليس بقصير. وقفتُ أمام باب مكتب أخصائي المدرسة حسب اللوحة الإرشادية المُثبتة على الجدار بكل قوة، وصلابة.

قرعتُ الباب مُستأذنًا، سلّمت عليه، وكان زميلًا سابقًا، ومعرفة قديمة، رحَّب بي بعناق زائف، وأهداني ابتسامات مألوفة، مُعلّبة وجاهزة للاستهلاك اليومي وللتوزيع المجاني، نظر إليَّ بحياء، ورفق، وقال: اعتذر كثيراً على دعوتك هنا، ولكنك رجل "تربوي" وتعرف آليات وحيثيات عملي واختصاصي، قلت له: تفضَّل، وقل ما عندك بكل ارتياح، وشهوة، وكلي آذان صاغية لك! قال: ولداك على غير عاداتهما، بدأت تظهر عليهما أعراض العناد، والرفض، والاحتجاج، وأحيانًا يصل الأمر إلى العصيان.. اندهشت من كلامه، فلاحظ دهشتي وأُغرم بها لدرجة الثمالة، مُعتقدًا أنه حقنني بحقنة مزعجة، أو صعقني بصعقة كهربائية صادمة، قاتلة!

لك ما تُريد أستاذي، لا تكترث بهذه الأعراض السريعة، سأخفيها بكل سهولة، وغلظة "قلت له بكل بهجة"، ثم ودعته وهو في نشوتهِ الصغرى، وخرجت من عنده حاملاً نشوتي الكبرى.

الحمد لله، الآن اطمأن قلبي، فقد تأكدتُ أنَّ أولادي قد بدأوا يكتشفون الحياة، وأخذوا يفهمون حقيقة الواقع، وأنني أعرفهم جيدًا بأنهم لن يعترضوا إلا على الخطأ ولن يتعنتوا إلا على الاعوجاج والزلل.

حين يبدأ الاعتراض والعناد يبدأ الاكتشاف وينبت الوعي! مجتمعاتنا العربية لا يُمكن أن تعيش فيها مُحترمًا، مُصانًا، دون التزود بالعناد والعصيان والتَّمرد!

خرجتُ من بوابة المدرسة السوداء المزعجة وأنا مُبتهج، أرددُ: "وأخيرًا أدرك أبنائي حقيقة واقعهم الذي ينتمون إليه"! وحين التقيتهم في البيت وقفت فيهم خطيبًا: شكرًا أبنائي لقد عرفتم الطريق فالزموه، وعضوا عليه بالنواجذ، كونوا عصاة ضد الخطأ، متمردين على العوج، التزموا العناد ضد التهريج، وامتهنوا الرفض أمام التهميش، وستعيشون بكفاءة وهناء، وستملكون فضيلة وشرفاً وستموتون بطهارة وبياض".