عائشة السريحية
عيناك حائرتان، أعرف السبب، أنت في عالم آخر لا يستطيع فيه المرء أن يحكي بلسانه كما كان يفعل.
نيكولا! أعرفك جيدًا رغم أننا لم نتقابل يومًا في عالمي، لكني أعرف كل تفاصيل حياتك، ونظراتك تحكي الكثير.
أليس العالم الآخر مختلفاً؟ ألذلك تتلبسك الحيرة، ويغرس الصمت أظافره في لسانك؟
أخبرني يا نيكولا، فلطالما أردت أن أسمع الحقيقة منك، لكنك رحلت منذ زمن، رحلت وتركت كتابًا مفتوحًا، يحمل أسرارًا لا يعرف فك شفرتها أحد. لماذا الرحيل يا نيكولا، لم لا نبقى مع من نحب طويلًا؟ لكن هل سيبقى من نكره أيضًا؟ يا لها من خيارات مرة، تتركك حائرًا بين البقاء والرحيل. هل تركتهم يأكلون طعامك، ويستولون على ردائك؟ هل ظلموك حين أشعلوا النيران ليخفوا الحقيقة ويحطموا آمالك، وينسفوا كل الوثائق التي تثبت ملكيتك لأفكارك؟ لماذا فعلوا ذلك يا نيكولا؟ هل كانت غيرتهم السبب؟ أم لأنك لم تكن منهم؟! لم ترفع الراية البيضاء، وكنت بمرور الزمن أندهش من جمال عقلك، من أين أتيت بكل هذا يا نيكولا؟
أتعرف أن أكثر شيء حيرني، هو أديسون الذي استولى على مجهودك، فبعد أن وعدك بالجائزة نكث بوعده وجعلها دعابة، يا له من شخص أناني، لكن بعد ما حدث معك لم عدت وعملت معه مجددًا؟ هل كانت حاجتك للمال السبب؟
أ لم تكن تعرف أنَّ الغيرة التهمت منطقه، وعقله، لقد خاف منك كثيرا يانيكولا، فقد جئت بشيء مختلف وفريد، نقلت عصر التيار المباشر وأحللت المتردد الذي قلب الطاولة، لكنهم ماذا فعلوا بمترددك يانيكولا؟ أرادوا تشويه سمعة اختراعك فتسيدهم، أراك يا نيكولا صامتا، ولكني أستطيع سماعك، أحب أن أخبرك أن تيارك المتردد ما يزال موجودًا إلى اليوم ونحن في 2022.
لقد اخترعت شيئًا عظيمًا لم يستطع أديسون إنكاره. نعم، لقد حاول إنكاره لكنه لم يصمد كثيرًا، هل تعرف أنك غيرت مفاهيم الحياة العصرية؟!
يا إلهي يا نيكولا! إنك عبقري، ومع ذلك عملت لعام كامل كعامل بسيط، لكسب قوت يومك، أتدري يا نيكولا، ربما كان الحظ ينتظرك لسبب نجهله، لأنه ظهر أخيرا بعد مُعاناتك وجلب المستثمرين، كأني آراهم بأم عيني وهم يستقبلونك ويستمعون لأفكارك، ويقلبون الأحداث نحو الجانب المشرق الذي تستحقه، أعجبني كثيرا حين رأيتك تستلم أول مليون دولار، وقمت بمنح نصفه لصديقك براون، يا لجمال روحك يا نيكولا!
ما أزعجني هو أن أديسون لم يهدأ له بال، حتى بعد خسارته للقضية التي اتهمك فيها وشكك في براءة اختراعك، وكيف لحاسد أن تخمد ناره؟ لكن الفارق بينك وبين حاسديك، أنك تملك قلبًا تملؤه المشاعر الصادقة، أتذكر يا نيكولا ذلك العقد الذي كان بموجبه ستحصل على اثني عشر مليون دولار، لكن ويستنجهاوس الرجل الذي آمن بك كان سيُفلس؟ فتنازلت عن حقك ومزقت العقد! لم تبال بالمال أبدًا. إنِّه عمل نبيل جدًا، ومع ذلك استمر حاسدوك، في حربهم، فأحرقوا مكتبك ليتخلصوا من براءات الاختراع التي حققتها ومخططاتك التي أفنيت عمرًا لتبنيها، لكنهم لم يعوا أنَّهم مهما أحرقوا الورق فلن يحرقوا عقلك، لقد أدهشت المهندسين والعلماء آنذاك، هل تذكر حين أقعدوك على كرسي فاراديه؟ لقد قالوا إنِّه من بعد موته لم يستحق أحد الجلوس عليه سواك، مجهودك لعشر سنوات لم تستطع النار أن تهدمه، ذاكرتك العبقرية أنقذت وستنجهاوس من الإفلاس، فعدت قائما على قدميك في أقل من نصف عام.
عجيب أمرك يا نيكولا! لا تحب الحياة الاجتماعية الصاخبة، إلّا أنك كنت تقيم بعض الحفلات الكبيرة، ولكن أتدري ما أضحكني؟ أنك تأخذهم إلى مختبرك ليشاهدوا سحرك الكهربائي، ويروا تمرير آلاف الفولتات الكهربائية عبر جسدك، وتلاعبك بها وكأنها مجرد لعبة ساحر أو لاعب خفة.
لكن لم أفهم الرابط بين الرياضيات والفيزياء والشعر والأدب، هل للكهرباء ذات الطاقة التي تفجر الملكة الشعرية، ترجمتَ ونقلتَ الأشعار الصربية، وكنت مهتمًا جدًا بكل التفاصيل، مع صديقك براون وزوجته التي اعترفت أنك أحببتها كثيرًا، لكنها كالمدينة المحرمة، فهي زوجة صديقك، هل كان حبًا للشعر فعلًا أم حبك لزوجة صديقك، أم هو الحنين لبلدك الأصلي؟ أم كان لك جانب أدبي خلّاق؟
لقد أكثرت أسئلتي يا نيكولا، لكني لا أستطيع مجاراة صمتك، فأنا في عالم ما زال المتكلم فيه هو المتحكم فاعذرني!
رغم الفارق الزمني بيننا، إلّا أني أتعجب كثيرًا من استشرافك للمستقبل، فقد استطعت أن تصنع أول سفينة يتم التحكم بها لا سلكيًا في 1898، ألا ترى أنك قد سبقت عصرك وأوانك؟
لقد جذبت الرقابة العسكرية إليك بسبب عقلك المبدع، فأصبح البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) يضع اسمك كعنوان للدهشة والترقب والخوف معًا. آآه يا نيكولا، هل تتذكر "ريمبو"؟ لماذا لمعت عيناك حين سمعت هذا المصطلح؟ لقد استطعت أن تخلق مجالًا مغناطيسيا يخفي الأجسام عن الرادار، واستخدمت هذه التقنية في الغواصات، لقد تم استثمار اختراعاتك في الأعمال العسكرية، وطورت أفكارك ثم توارت في دهاليز الأسرار العسكرية، رغم عدم رضاك عن ذلك، لا تقلق فأنا أعي جيدًا مدى شغفك لتحسين حياة البشرية، ألا يكفي أنك أول من صنع سيارة تتحرك بسرعة 150 كم لمدة أسبوع كامل دون استخدام أي وقود؟ ألم يكن اختراعًا مُستقبليًا، لم يُفهم آنذاك!
رفضُك لجائزة نوبل في عام 1915م، بسبب عرضهم أن تكون مناصفة بينك وبين أديسون، موقفٌ أثار إعجابي يا نيكولا، فالمبادئ لا يُمكن أن تباع بجائزة، وكيف لا وقد حاربك كثيرًا، لكني أرغب أن أعرف كيف كانت لك القدرة على استشراف المستقبل والتنبؤ بالذكاء الاصطناعي، وبشبكات توصل العالم ببعضه، هل كنت تخبئ أسرارك لعلمك أنَّ كثيرًا من البشر لم يكونوا مستعدين لها؟ أم أنك مُنِعتَ من كشفها؟ لقد تأخرتْ كثيرًا حتى ظهرتْ للعلن، كالهاتف المحمول، والإنترنت، والسيارات ذوات المحركات الكهربائية، والذكاء الصناعي والروبوتات، ولم يتبق سوى نقل الكهرباء اللاسلكية التي ستضيء المناطق النائية.
أرجوك يا نيكولا أخبرني، كيف انتهت حياتك؟ لقد كانت وفاتك في ظروف غامضة، هل لك أن تخبرني كيف انتقلت للعالم الآخر؟
تسلا، تس..لا،...... ت س لااااا.. يا إلهي!! صوت المنبه ابتلع كل شيء، أتمنى أن أرى حلمًا آخر يومًا ما، فما أثقل الحياة بعد العودة من العالم الآخر.