علمني فك الخط

 

هند الحمدانية

لكل مؤسسة رؤية جوهرية وأهداف طويلة المدى وقصيرة، ومنها ينبثق هيكلها التنظيمي واختصاصاتها واختيار الطاقم الذي سوف يعمل كخلية نحل دؤوب تنسج لنا من رحيقها العسل النقي والشفاء الرباني، والمعلم كما يعلم الجميع هو النحلة التي تجتهد كثيرًا لتنتج لنا عسلا أصيلا لا تشوبه الأمية والجهل تحت ظل مؤسسته التي يصرف عليها الغالي والنفيس لكي تشرق في مجتمعاتنا بشمس المعرفة والتنوير.

وأقل ما يمكنني أن أتوقعه من أي مؤسسة تعليمية فاضلة، أن يتخرج أبنائي منها بمهارة الكتابة والقراءة وبعض المعلومات المتنوعة حتى لو كانت ضحلة، فأنا لست ذلك الطامع في مستويات الفكر العليا وقدرات التحليل ومهارة طرح الأسئلة واصطياد الأجوبة، ومع ذلك كله حتى هذا القليل كان محل استفهام وتساؤل: عندما اكتشفت عددا لا يستهان به من الطلبة والطالبات في سنتهم الأخيرة لا يعرفون الكتابة ولا يملكون القدرة على القراءة وفك الخط.

أين يكمن الخلل؟! فهذه فجوة لا يمكن التغافل عنها، وهي إنذار مُبكر لغزوٍ أمي ولإهمال كبير لا يمكن إشاحة النظر عنه، فنحن نتحدث في هذا المقال عن منظومة تعليمية متكاملة بكل إمكانياتها ومقدراتها وإداراتها وأفرادها، كيف مر ذلك القطار بذلك العدد الذي لا يستهان به من أبنائنا طيلة أكثر من عشر سنوات وبدون أن يكتسبوا الحد الأدنى من العلم والمهارات، أيعقل أن لم يكن هناك مُعلمٌ راشد استنكر الأوضاع وحاول أن يستوقف ذلك القطار في أية محطة حتى لو كانت متأخرة.

والمحزن المضحك في الأمر أن هذه القضية ظهرت في أفضل المدارس على مستوى المحافظات، تلك المدارس التي كانت السباقة دائمًا في المراكز الأولى على جميع الأصعدة والمستويات، المتربعة على منصات الإجادة ومسابقات النظافة وغيرها، أليس الأجدر لإدارتها من احتواء فلذات أكبادها وإعداد برامج متكاملة حتى يخرجوا منها في أسوء الأحوال بصديقين عزيزين ألا وهما القراءة والكتابة.

لكن لا حرج على مدارسنا التي تدور في فلكٍ مؤسسيٍ واحد لا يُقدِّس إلا الشكليات والصورة الخارجية المثالية التي تسعى لتحصد المراكز والكؤوس متجاهلةً تماما المضمون الذي يعكس دائما الواقع الصادق والإنتاج الحقيقي الذي يتوافق مع المبادئ والعطاء والأخلاق.

ليس تحاملًا والله، ولكن هي غصة في الصدر وبوح في الخاطر، عندما زارتني قريبة لي وهي أخصائية اجتماعية انتقلت حديثاً لإحدى مدارس النخبة في المنطقة، وحكت لي بكل أسف عن عدد كبير من طلبة مدرستها على مشارف عامهم الدراسي الأخير، لا يملكون القدرة على القراءة ولا حتى التعبير، وكيف أنها انصدمت كثيرا فكيف مرَّ هؤلاء الطلاب بصفوف مختلفة وكيف كانوا ينجحون في العملية التعليمية في كل عام، وعلى من يقع عاتق المسؤولية هنا: هل على الأسرة أم المدرسة أم المعلم الذي كاد أن يكون رسولا.

وكوصية أخيرة لمديرة مدرسة أو معلم أو أي جزء من هذه المنظومة، وبلسان تلميذٍ شارف على التخرج وما زال أمياً يجهل فك الخط: علمني كيف أقرأ وأكتب، الزمني بذلك فأنا لست واعيًا الآن لما ينفعني ويضرني، لست مستوعبا ما الذي يسقط مني اليوم ولن أستطيع استعادته غدا، لست موقنا بقيمة الأحرف التي أهرب منها الآن، أرغمني اليوم أن أسحب كرسياً وانصت لك، فلن ينقصني عندما أخرج لذلك المجتمع الكبير المفتوح إلا قلم وكتاب، كتاب سيسخره الله لي ليهذبني، وقلم أكتب به أفكاري بوضوح فتكون مرجعي كلما ضللت الطريق.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك