د. محمد بن عوض المشيخي **
للإذاعة المسموعة سحرها الخاص وأسلوبها المميز بين المستمعين الذين ارتبطوا بهذه الوسيلة الجماهيرية ذات التأثير النفَّاذ الذي يدخل قلوب وعقول عشاق الصوت الأثيري الدافئ بدون حواجز، خاصة الأجيال التي لم تعاصر الإنترنت وفيس بوك وأخواتها ولم ترغب في المقامرة في تجربة التقنية الجديدة ودهاليزها المعقدة.
وفي بداية الألفية الثالثة كان هناك اعتقاد على نطاق واسع بأن عصر الراديو قد انتهى؛ مثله مثل الصحافة الورقية التي كانت أول ضحايا تطور الإعلام الرقمي الذي تميز بما يعرف بثورة لمس مفاتيح الأجهزة الذكية التي تحمل كل المضامين الإعلامية على شاشة جهاز الهاتف الذكي.
وبالتالي كان على الراديو أن يتوارى ويفسح المجال للبث الفضائي وعصر الصورة الذي سيطر على المشهد الإعلامي في تلك الفترة بشكل منقطع النظير. وكنَّا نشعر بأن البساط قد سحب من الإذاعيين القدامى المخضرمين الذين تعودنا على متابعة برامجهم الناجحة وأصواتهم الشجية عبر السنين. صحيح قد تأثرت بعض الإذاعات الدولية العابرة للقارات وتوقف بعضعا عن البث وتحولت الموازنات والمخصصات المالية إلى إنشاء قنوات تلفزيونية بديلة للبث الإذاعي كما هو الحال في بعض الدول الغربية مثل كندا التي أوقفت إذاعاتها الموجهة واستبدلتها بقناة تلفزيونية فضائية عابرة للقارات، بينما أوقفت وكالة الإعلام الأمريكية الحكومية بث إذاعات صوت أميركا الموجهة للهند وأوكرانيا والبوسنة وإذاعة سوا الناطقة باللغة العربية.
أما هيئة الإذاعة البريطانية فقد توقف بثها الموجه لدول أوروبا الشرقية في العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين. ولكن في نفس الوقت صمدت الإذاعة المسموعة في دول أخرى وحافظت على مكانتها وسط هذا العالم الذي تسيطر عليه الصوت والصورة بألوانها وحركاتها المبهرة معا.
ويصادف 13 من فبراير من كل عام اليوم العالمي للإذاعة المسموعة الذي حددته المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ودَعَتْ دول العالم إلى الاحتفال بهذه المناسبة منذ عام 2013م، ويرجع هذا الاختيار إلى اليوم الذي بدأ فيه أولُ بثٍّ إذاعي للأمم المتحدة عام 1946م، وتهدف اليونسكو من خلال هذه الاحتفالية إلى تذكير شعوب العالم بأهمية هذه الوسيلة المهمة، ودورها الريادي في خدمة الإنسانية، ورفع المستوى الفكري والتوعوي للناس في مختلف أرجاء المعمورة، كما تهدف المنظمة الدولية من وراء تحديد يوم عالمي للراديو إلى التنسيق والتعاون بين الإذاعيين الذين يعملون في مجال الإذاعة؛ لتبادل الخبرات بين مختلف المؤسسات الإعلامية في العالم.
لقد أدرك القائمون على الإذاعة أهمية برمجة البرامج المؤثرة واختيارهم أوقات الذروة لتوجيه بوصلة البث المباشر لاصطياد المستمعين أثناء تواجدهم في السيارات للذهاب للعمل أو السفر والتنقل من مكان إلى آخر في أوقات الصباح والظهيرة أثناء العودة من المكاتب إلى المنازل؛ كما تزخر الإذاعات المسموعة عبر العالم بالبرامج المسائية للمستمعين الذين يذهبون في الفترة المسائية للتسوق أو التنزه.
ومن التطورات الجديدة التي أفرزتها الثورة التكنولوجية؛ ظهور فن إذاعي جديد يعتمد على الإنترنت، وذلك من خلال تطبيقات خاصة من البرمجيات التي تحمل في طياتها البرامج الإذاعية المنوعة وتعرف باسم "البودكاست"، وتختلف هذه الوسيلة الجديدة نسبيًا عن الراديو التقليدي، والتي ظهرت لأول مرة في العقد الأول من هذا القرن؛ حيث يمكن الاستماع إليها في أي وقت وليس عند البث المباشر.
وعلى الرغم من كل هذه التطورات، إلا أنَّ الدراسات تشير بأن معظم سكان العالم ما زالوا يستمعون للإذاعة المسموعة التي وصل عددها في السنوات الأخيرة إلى أكثر من أربع وأربعين ألف محطة إذاعية في مختلف أقطار العالم. فالإذاعة المسموعة تتميز بخطابها الشخصي الجذاب، فعندما يخاطب المذيع جمهوره (عزيزي المستمع) يشعر كل فرد أنَّ هذه العبارة موجهة له شخصيًا، عكس الشاشة الصغيرة التي يجتمع حولها الناس ويشاهدون بشكل جماعي مسلسلات وبرامج التلفزيون.
الإذاعة المسموعة هي الوسيلة الجماهيرية الوحيدة التي تستطيع أن تستمع إليها وأنت تقوم بعملك في النفس الوقت كما هو الحال الاستماع للراديو أثناء قيادة السيارة، وكذلك قيام ربات البيوت بممارسة الأعمال المنزلية كالطبخ وغيره من الأعمال خلال الاستماع بدون توقف عن العمل.
ففي دول العالم النامي- على وجه الخصوص- لعبت الإذاعة دورًا محوريًا في التنمية الوطنية؛ وذلك لرخص أجهزة الراديو، وسهولة حملها في المناطق النائية التي لا يوجد فيها كهرباء. وبشكل عام تعتمد الإذاعة على عدة عناصر ومقومات تمثل القوة الضاربة لهذه الوسيلة؛ المتمثلة في المؤثرات الصوتية التي يستخدمها المخرج لتصوير ووصف الأحداث داخل الأستدويو للمستمع. ويعد الحوار الإذاعي الثنائي أو المتعدد أحد أبرز الفنون الإذاعية التي تضفي علاقة حميمة بين المذيع والمستمع، بينما تشكل الموسيقى الضلع الثالث لهذا المثلث لوجود قطاع عريض من الجماهير الذين يستمعون للموسيقى حول العالم بقصد الترفيه.
محليًا.. ازدهر الخطاب الإذاعي في السلطنة بعد احتكار الحكومة لأكثر من 34 سنة للصوت الإذاعي الأحادي الرسمي، وسُمح للقطاع الخاص بفتح إذاعات خاصة، فقد أصبحت في أثيرنا الوطني 8 إذاعات خاصة؛ منها أربع إذاعات ناطقة باللغة العربية وتتنافس كلها في برامجها الجماهيرية الرائعة التي تحمل هموم المواطن وتناقش بصراحة وشفافية ما يدور من جدال في الساحة العمانية، من خلال استضافة صناع القرار والمختصين في الشأن العام، وقد أدخلت هذه الإذاعات البث المرئي على موقع "يوتيوب" في معظم برامجها.
ومن المفارقات العجيبة أن القنوات الفضائية العمانية التي أسسها أفراد قد توقفت في السنوات القليلة الماضية وكان عمرها قصيرا لأسباب مالية مثل: نور مسقط وسند ومجان، بينما تصمد قناة الاستقامة ذات التوجه الثقافي والديني، مخاطبةً، بذلك العديد من الشعوب باللغات: الإنجليزية والسواحلية والأمازيغية والأردية، إضافة إلى العربية.
في الختام.. أكثر ما تحتاجه وسائل الإعلام العمانية التقليدية التي تتعرض لمنافسة شرسة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الرقمية المختلفة في هذه المرحلة المفصلية، إجراء دراسات علمية حول الخطاب الإعلامي المحلي، وذلك للتعرف على نقاط القوة والضعف من أجل التصويب وتطوير المضامين والرسائل الإعلامية، خاصة البرامج الموجهة للرأي العام العماني، فالإعلاميون الذين يعتمدون التخمين والاعتقادات الشخصية عند وضع أجندة قنواتهم، دون الاعتماد على البحوث التي تكشف رغبات الناس وأذواقهم، فهؤلاء أقرب للذي يمشي في الظلام الدامس، فلابُد له من التعثر والسقوط في أي لحظة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري