مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل

 

د. هناء بنت محمد أمين

تحظى قضية العلاقة بين التعليم وسوق العمل بأهمية بارزة لدى صانعي السياسات وأرباب العمل والتربويين وأولياء الأمور والطلبة في مختلف أنحاء العالم. وفي السلطنة تولي الحكومة والجهات المعنية اهتمامها بهذه القضية، وكما لاحظنا مؤخرا؛ حيث استضاف مجلس الشورى في جلسته الاعتيادية السادسة لدور الانعقاد السنوي الثالث (2021 -2022) من الفترة التاسعة للمجلس (2019- 2023)، معالي الدكتورة وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ومعالي الدكتور وزير الاقتصاد لمناقشة واقع المخرجات وسوق العمل، وتقييم السياسات والاستراتيجيات والبرامج التي تعمل عليها الحكومة لمعالجة الفجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل والمواءمة بينهما.

وتركزت مناقشات مجلس الشورى على ثلاثة محاور رئيسة وهي: واقع المخرجات وسوق العمل، وتقييم السياسات والاستراتيجيات والبرامج التي تعمل عليها الحكومة لمُعالجة الفجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل بالإضافة إلى محور آخر بشأن المواءمة بين المخرجات وسوق العمل. وأشار معالي وزير الاقتصاد إلى أن بعض التحديات التي تواجه الوزارة فيما يتعلق بمواءمة مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل منها عدم وجود "برنامج انتقالي" من الدراسة إلى سوق العمل. في حين أكدت معالي الدكتورة وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار أنه تم تدشين برنامج "إعداد" كبرنامج تدريبي وطني مدته عام أكاديمي كامل يستهدف طلبة السنة قبل الأخيرة من الدارسين في مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، ويهدف إلى تزويد الطالب بالمهارات الأساسية من خلال تعريضه لبيئة العمل ومعطياته لفترة كافية. ومن المؤمل أن يعمل البرنامج على إكساب الطالب معارف ومهارات وخبرات كافية تعمل على تجسير الفجوة بينه وبين احتياج قطاعات العمل من هذه المهارات والمعارف.

كما أشارت معاليها إلى أن الوزارة تعمل على مراجعة برامج ومناهج الكليات المهنية وترخيص برامحها. وفي محور المواءمة بين المخرجات وسوق العمل، وأكد الأعضاء على ضرورة العمل على فتح مسارات التعليم المهني والتقني في التعليم ما بعد الأساسي والإسراع في تنفيذ التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بشأن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضرورية لتطبيق التعليم المهني والتقني في التعليم ما بعد الأساسي.

القارئ لخلاصة لما ورد عن أسباب وجود مشكلة الباحثين عن عمل يعود إلى نظام التعليم حيث كون مخرجاته لا تمتلك المهارات التي يتطلبها سوق العمل وكذلك لعدم وجود برنامج انتقالي من الدراسة إلى سوق وبالتالي فإن برنامج إعداد الذي تقوم به وزارة التعليم العالي سوف يسهم في انخراط الباحثين عن عمل في سوق العمل. هذه قراءة ناقصة حيث تتمثل العلاقة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل في: الطلب من القوى العاملة (سوق العمل)، والعرض من القوى العاملة (مخرجات نظام التعليم)، وبالتالي لابُد من مناقشة طرفي العلاقة لمعرفة الفجوة بينهما. ومن هنا لابد مع دراسة تركيبة سوق العمل العماني الذي يمثل الطلب على العمالة وخصائص مخرجات التعليم التي تمثل عرض القوى العاملة.

إن تركيبة سوق العمل في السلطنة مجزأة بين القطاع العام والقطاع الخاص، ويفضل مُعظم المواطنين العمل في القطاع العام بحكم ما يتميز به من استقرار وأمان وميزات اقتصادية وإدارية. وبات الآن واضحا أن القطاع العام شبه مشبع بالعاملين وأن على القطاع الخاص أن يأخذ دوره في توفير فرص العمل للباحثين عن عمل . من هنا لابد من دراسة خصائص القطاع الخاص لمعرفة ما إذا كان قادرا على استيعاب الباحثين عن عمل. وفقًا لبيانات الكتاب الإحصائي السنوي 2021 الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات بلغ عدد العاملين في القطاع الخاص والعائلي 1,655,642 عاملا وعاملة، وكان عدد العاملين من العمانيين 254754 عاملا، وهو ما يُشكل 15.4%، في حين بلغ عدد الوافدين 1,400,88 وما يمثل 84.6%.

أما توزيع العاملين في القطاع الخاص والعائلي من حيث النوع الاجتماعي، فقد شكل الذكور ما نسبته 85.5% وشكلت الإناث 14.5% من إجمالي العاملين فيه. ولمعرفة المستوى التعليمي الذي يمتلكه العاملون الوافدون في القطاع الخاص والعائلي، فإن دراسة المؤهلات العلمية لهم وفقاً لبيانات الكتاب الإحصائي السنوي 2021، تشير إلى أن نسبة العاملين الوافدين الذين يجيدون القراءة والكتابة فقط بلغت 33.45%، ونسبة العاملين الوافدين الذين يحملون مؤهل ما دون دبلوم التعليم العام 43.71%، فيما شكل العاملون الوافدون من حملة الدبلوم العام 13.24%، في حين كانت نسبة العاملين الوافدين من حملة الدبلوم الجامعي 2.59%، ونسبة العاملين الوافدين من حملة البكالوريوس 3.97%، ونسبة العاملين من مؤهلات أخرى 3.04% من إجمالي العاملين الوافدين في القطاع الخاص والعائلي.

وكما هو واضح فإنَّ القطاع الخاص والعائلي يرتكز في المقام الأول على العمالة المحدودة المهارة أو غير الماهرة؛ حيث يشكل العاملون فيه من حملة شهادة دبلوم التعليم العام وما دونها حوالي 90.4% من إجمالي العاملين الوافدين، في حين أن الطلب على العمالة الماهرة أو الاختصاصيين محدود. في ذات الوقت، فرص التوظيف للإناث في القطاع الخاص والعائلي محدودة؛ حيث شكلت الإناث حوالي 14.5% فقط من إجمالي العاملين فيه في العام 2020.

ونظرًا لأن المناقشات درات حول مخرجات التعليم العالي، نعرض خصائص مخرجات التعليم العالي، وفقا للتقرير السنوي لإحصاءات التعليم العالي في السلطنة للعام الأكاديمي 2019/ 2020؛ حيث بلغ عدد الخريجين 23816 خريجًا وخريجة، من بينهم 478 من غير العمانيين. وشكل الذكور ما نسبته 40.3% وشكلت الاناث 59.7% من إجمالي الخريجين. وبلغ عدد الخريجين من داخل السلطنة 21870 ومن خارج السلطنة 1946 خريجا وخريجة. أما من حيث توزيع الخريجين حسب المؤهل العلمي، فقد شكل حملة البكالوريوس/ ليسانس 63.1% ، ونسبة حملة الدبلوم 22%، ونسبة حملة دبلوم تخصصي 4%، وشهادات أخرى من ضمنها الدراسات العليا بنسبة 11%.

والوضح أن مشهد القطاع الخاص لا يتواءم مع مشهد مخرجات التعليم العالي؛ حيث إن وجود قطاع خاص يعتمد على عمالة محدودة المهارة او غير ماهرة وغالبيتها من الذكور، وتعليم عالٍ يوفر أعدادًا كافية من المخرجات الماهرة المتخصصة وغالبيتها من الاناث، تسبب ذلك في زيادة المعروض من العمالة الماهرة والمتخصصة على الطلب عليها، ونتيجة لذلك نشأت ظاهرة الباحثين عن عمل بين المواطنين، وذلك لعزوفهم عن تلبية احتياجات القطاع الخاص لعمالة غير ماهرة وبأجور منخفضة وغالبيتها من الذكور.

وفي ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات، فإنَّ الرقمنة والأتمتة للعديد من الأعمال ستعمل على تغيير مشهد التوظيف وتدعم التحول الاقتصادي في السلطنة؛ حيث إن إمكانات توسيع نطاق الأتمتة لأداء المهام التي يمكن أن تنجزها الآلات- لا سيما في القطاعات التي يتم فيها توظيف العمالة الوافدة محدودة المهارة والرخيصة- سيؤدي إلى تقليص الاعتماد على هذا النوع من العمالة. وفي ذات الوقت زيادة الطلب على المهارات الرقمية ومهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وبالتالي يتطلب من القطاع الخاص أن يعزز قدرته على توظيف الرقمنة والأتمتة ومواكبة التغيرات المتسارعة لتكنولوجيا المعلومات، كما يتطلب من نظام التعليم العمل على جذب الطلاب إلى هذ النوع من التخصصات كي يُلبي حاجة سوق العمل لها.

وتسعى السلطنة إلى الابتعاد عن الاعتماد على النفط وتحديث القطاع الخاص وتطويره، وتنويع الاقتصاد إلى صناعات متطورة ذات قيمة مضافة وبناء اقتصادات مبنية على المعرفة، وهذا يعني الانتقال من صناعات منخفضة التكلفة وكثيفة العمالة إلى صناعات كثيفة رأس المال ومتطورة تتطلب مهارات عالية. ووفقًا لرؤية "عمان 2040"، فإنَّ التوجه الاستراتيجي لسوق العمل يدعو إلى "سوق عمل جاذب للكفاءات ومتفاعل ومواكب للتغيرات الديموغرافية والاقتصادية والمعرفية والتقنية، ويحفّز استيعاب القدرات الوطنية القادمة من مخرجات النظام التعليمي وتعزيز دور القطاع الخاص في توفير فرص عمل للشباب العماني المؤهل، إضافة إلى مواكبته في تركيبته للتطورات العالمية في مجال وظائف المستقبل". أما التوجه الاستراتيجي للقطاع الخاص فيدعو إلى "قطاع خاص ممكّن يقود اقتصاد تنافسي ومندمج مع الاقتصاد العالمي من خلال تعزيز قيم التنافسية، ووضع الأطر المناسبة لها على صعيد القطاعين الحكومي والخاص، .... وتعزيز منعة الاقتصاد وقدرته على التكيف مع المتغيرات الإقليمية والعالمية كما يتم تطوير بيئة الأعمال، وإعطاء القطاع الخاص دور الريادة، وتمكينه من تسيير عجلة التنمية الاقتصادية المتوازنة". وجاء التوجه الاستراتيجي للتعليم ليطالب بـ"تعليم شامل وتعلّم مستدام، وبحث علمي يقود إلى مجتمع معرفي وقدرات وطنيّة منافسة... إنَّ تطوير النظام التعليمي بجميع مستوياته وتحسين مخرجاته أصبح أمرًا ضروريًا لبناء الإنسان ... المبتكر والنشط اقتصاديًا، وذلك من خلال التركيز على رفع جودة التعليم المدرسي والتعليم العالي، وتطوير المناهج والبرامج التعليمية؛ بحيث يصبح خريجو النظام التعليمي مؤهَّلين لدخول أسواق العمل المحلية والعالمية".

وعليه.. نأمل أن تُحقق رؤية "عُمان 2040" هذه الأهداف الإستراتيجية لسوق العمل والقطاع الخاص والتعليم، في إطار خُطط التنمية الخمسية المتعاقبة، ومن خلال بناء نظام تعليمي يتميز بالجودة، ويمتلك مخرجاته المهارات التي تؤهله للانخراط في سوق العمل، وبناء اقتصاد قوي ومنافس يسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية من خلال بناء قطاعات اقتصادية مولدة لفرص العمل لمخرجات نظام التعليم.

تعليق عبر الفيس بوك