الطائيون القضاة الشعراء (5)

قراءة في سيرة الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي

 

ناصر أبوعون

"1889.. في تلك السنة هؤلاء العظماء ولدوا معًا" هذا العنوان الطويل اسم لكتاب شهير صدر عام 1991 للكاتب المصري أنيس منصور، يُؤكد فيه أنَّ سنة 1889 كانت استثنائية في تاريخ البشرية على مسارين؛ أما المسار الأول فيتمثل في أحداثها النوعية التي بشرت بولادة عصر العلم التطبيقي، وأمّا المسار الثاني فكان بولادة عشرات العظماء والأدباء حول العالم.

وعلى المستوى العربي فقد كانت هذه السنة عامًا يغاث فيه الناس وفيه يعصرون، وأهدت الأمة العربية ثلة من النابغين يتقدمهم عميد الأدب العربي طه حسين وعباس محمود العقاد (عملاق الفكر العربي)، والأديب الوجودي الساخر إبراهيم عبد القادر المازني رائد مدرسة الديوان وشاعر الطبيعة، ومؤسس الرابطة القلمية في بلاد المهجر إيليا أبو ماضي، ووزميله ميخائيل نُعيْمة أهم رواد المدرسة الأدبية الحديثة في القرن العشرين، والشاعر العماني الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي قاضي قُضاة مسقط، وهو لقب اختصَّ به دون غيره وهو (الشيخ القاضي عيسى بن صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي فقيه وقاض وشاعر؛ زهت بمولده ولاية سمائل الفيحاء عام 1306هـ/ 1889م، ورحل عنها إلى مسقط واستقرّ في (بوشر)، وهو من شعراء القرن العشرين النابهين وأول عُماني ازدانت جريدة الأهرام بقصيدته العصماء في مطلع القرن المنصرم، وينتسب إبداعياً إلى مدرسة "الإحياء والبعث".

الشيخ عيسى بن صالح الطائي على يسار السلطان سعيد بن تيمور.jpeg
 

وفي سنة ميلاده اجتاحت سواحل عُمان عاصفة عاتية هبّت على "شمال بحر العرب" وانكسرت حدتها على سواحل الطرف الشماليّ الشرقي للسلطنة، و"أُجريت لها محاكاة بالكمبيوتر عام 2009" فأكدت القراءات العلمية أن العاصفة خلّفت أمواجا عاتية بلغت 10 أمتار (33 قدمًا). وقبل وفاته بعشر سنوات تحديدا سنة 1932م والتي وُلد فيها نجله الشاعر حمد بن عيسى الطائي، تعرضت سواحل مسقط لإعصار شديد ثم انحسر وخلّف آثارا في جوادر وبعض مدن المحيط الهندي، وعلى صعيد الوضع السياسي عاصر الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي تراجع الهيمنة البحرية للإمبراطورية العمانية وانكماش اقتصادها بعد افتتاح مشروع "قناة السويس" وإحالة أساطيل السفن الخشبية إلى متحف التاريخ البحري بعد انبلاج عصر "السفن البخارية"، وهي الفترة ذاتها التي تعمّقت فيها الخلافات السياسية في المنطقة بين البريطانيين والفرنسيين حيث أقام السلطان فيصل بن تركي علاقات ودية مع المبعوثين الفرنسيين ومنحهم امتياز تزويد سفنهم بالفحم في منطقة بر الجصة. وعلى صعيد الإصلاح الداخلي جرت مفاوضات مع أنصار الإمامة انتهت بتوقيع اتفاقية السيب عام 1339 ه – 1920م.

وقرابة نصف قرن من الزمان عاشها الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي منذ عام 1306هـ/ 1889م وحتى وفاته 1362هـ/ 1943 نجده عاصر ثلاثة سلاطين في تاريخ عُمان هم: السيد فيصل بن تركي بن سعيد الذي وقّع مع الإنجليز الاتفاقية العُمانية البريطانية للصداقة والملاحة والتجارة، والسيد تيمور بن فيصل بن تركي (1913 – 1932) الذي تنازل عن الحكم لابنه السيد سعيد بن تيمور (1932- 1970) والد السلطان قابوس (1970– 2020) مؤسس نهضة عُمان الحديثة في سبعينيات القرن العشرين. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ السلطان تيمور أوفد مستشاره القضائي عيسى الطائي على رأس وفد رفيع المستوى إلى الهند لحضور مراسم تخرج ابنه السلطان سعيد بن تيمور الذي تولى الحكم عام 1932.

ومن آثاره الأدبية الزاهية كتابه: «القصائد العُمانية في الرحلة البارونية»، [حققه وراجعه "سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني"، وصدر في طبعة منقحة عام 2013 عن مؤسسة "الرؤيا للصحافة والنشر" بالتعاون مع مؤسسة "ذاكرة عُمان"، ويعود تاريخ هذه القصائد لزمن تكليف السلطان سعيد بن تيمور للشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي باستقبال المناضل القوميّ (سليمان باشا الباروني الليبيّ النشأة والأرومة) والطواف به في ولايات عُمان، والالتقاء بالمشايخ والعلماء والأعيان.

وتُعدُّ قصيدته "السِّينية" من عيون قصائده في شعر المناسبات الوطنية، وموضوعها تهنئة شعريّة للسلطان سعيد بن تيمور بمولد نجله السلطان قابوس بولاية صلالة في 18 نوفمبر 1940م؛ والتي أنشد فيها قصيدته التي مطلعها: «بُشرى فقد أحيى البشير نفوسا // وأدار من خمر السرور كؤوسا // وافى يزف إلى البلاد بشائرا // والكل أصبح بالهنا مأنوسا».

جلس الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي في مطلع صباه إلى أساطين العلم في عصره، استحلب مصاصة فكرهم، وتربّى على الدر المكنون في صدورهم، واستظهر الفيض المتدفق من معين الفقه الإسلامي في حضرتهم، واستوقد الكوكب الدريّ من ذُبالة أسرجهم التي لا تخبو نارها، ولا يزوي نورها مادامت الدنيا مستنيرة بعلومهم.

عبّ قلبه، واستضاء أنوار فكره وأشرب روحه الحيية من بحر الأحكام الشرعية للشيخ العلامة حمد بن عبيد السُّليْمي، واستبصر على يديه فنون السياسة والدهاء، وتمثل به فجمع في شخصيته بين التدريس والإفتاء والقضاء، واستوقد من جذوة قصائده ما ألهب روحه الوطنية التواقة إلى الريادة والعطاء. وتتلمذ على أيدي ثلاثة من علماء وشيوخ قبيلة (كندة) هم: ربيعة بن أسد الكندي، وسليمان بن محمد الكندي، وخاله العلامة سعيد بن ناصر الكندي، وفيهم ذاع القول المشهور "لو انتسب العِلْمُ لقال أنا كندي، ولو انتسبتْ الإمامةُ لقالتْ أنا خروصية"، ولو نطقت المتون في رفوفها، وتفاخرت الأقلام بأنسابها لكافهم فخرا أن تقف مجلدات "المصنف" و"بيان الشرع" على أبواب الجنان في استقبالهم، وجلس بين يدي علامة أهل زمانه الملّقب بالبحر الأسود، الشاعر القاضي الفقيه العالم باللغة وشواردها عبيد بن فرحان السعدي، فاستقى منه الأصول، ونهل من معينه الشعر، واستسقى سائر الفنون من بحر علمه الغني. ثم لازم شيخه حمد بن عبيد السليمي، في مسجد "الخور" في عهد السلطان سعيد فلمّا شهد من نباهته وسعة صدره، واتساع قريحته وعلو فهمه قربّه وأصبح من تلاميذه وأهل خاصته، ودرس على يديه فحفظ مؤلفاته عن ظهر قلب، وقرأ على يديه "الشمس الشارقة في علم التوحيد" وأتقن فهم ودراسة موسوعته في القضاء الشرعي ”هداية الحكام إلى منهج الأحكام“، ووعى قلبه وفكره عمدة الفقه من "خزانة الجواهر في الفقه" واستظهر كتابيه "العقد الثمين في الدعوى واليمين" و"تبصرة المهتدين". وسما بلفظه وعبارته، وارتقى بفنون القول وبلاغته وامتص الأدب وعصارته من كتابيه "بهجة الحنان في وصف الجنان" و"قلائد المرجان" وحوى مجمع المسائل الفقهية المنظومة فكان جديراً بأن يكون ساعده الأيمن في القضاء، فلما أجاد وعلا في العلم شأنه، وارتفع بالإيمان والتقوى قدره، صار مساعدًا لأبيه في القضاء بمحكمة مسقط، ثم تولى شؤون القضاء في ولاية مطرح، وانتهى به المآل إلى شغل منصب القضاء وعمل مستشارا للسلطان سعيد بن تيمور إلى زمن رحيله.

انتسب شعر المُناسبات العُمانيّ في جلاله وعظمته، وحسن لفظه، وجمال سبكه إلى الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي، ودارت معظم قصائده على أغرض ثلاثة هي: الاستنهاض القومي للأمة من رقدتها واستثارة الحمية في عروق أبنائها، والرثاء الفني من غير أثرة أو مفاخرة، وفرائد شعرية في التهاني في غير ابتذال أو منادمة. ومن سمات شعر البادية؛ التزامه عمود الشعر الخليلي، وجزالة اللفظ العربي، وبلاغة المعنى البياني، ورصانة الصورة الشعرية، والتدفق الشعوري ممثلا لمدرسة البعث والإحياء في الخليج العربي وأطراف المحيط الهندي، كان التراثي العربيّ في بعده التاريخي والجغرافي حاضرا، ومستحضرا للتراث العمانيّ بخصوصيته وتفرده في قصائده، طبعت السلاسة والجزالة وجهها على أسلوبه الشعري، وكان يؤثر المحسنات اللفظية، ويحتفي بفنون البديع القولية، ويستظهر عناصر الموسيقى الخارجية في البناء المعماري لسائر منظوماته، فلما غلبته النزعة القومية وطبعت شعره الروح الوطنية جاءت قصائده محملة بشحنات عالية من الحنين للوطن، والاحتفاء بالعروبة لغةً وأصولا، والإحياء للوحدة الإسلامية منهاجا وتطبيقا، فنراه في جُل قصائده بلا استثناء يُذكر يرفع راية (سليمان باشا الباروني) السياسية، ويستظل تحت شجرة (محمود سامي البارودي) الشعرية وتتبدى هذه السماء بجلاء أكثر في قصائده: (للحق نور) و(بشرى) و(أبو اليقظان) و(للعليا رجال) و(برق أو هديل .(

وفي الأخير.. يمكننا القول إن سيرة الشيخ القاضي تناثرت في كتب عديدة مجموعها حتى كتابة هذه السطور ثمانية هي: [شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان (جـ3)]- وزارة التراث القومي والثقافة- سابقًا- مسقط 1984م لمؤلفه: محمد بن راشد الخصيبي، وكتاب: [صدق المشاعر في رسالة الشاعر (مختارات شعرية)] - المطابع العالمية - روي (سلطنة عمان) 1990م لمؤلفه: عبد الله بن أحمد الحارثي، وترجم له الشاعر سعيد الصقلاوي في كتابه: (شعراء عمانيون - مطابع النهضة - مسقط1992م)، وذكر سيرته حسين الريامي في كتابه [تحقيق وتصحيح ديوان أبي الفضل الحارثي] الصادر عن مكتبة الضامري للنشر والتوزيع - السيب (سلطنة عمان) 1995م، وورد ذكر سيرته في كتاب: [الموجز المفيد، نبذ من تاريخ آل بوسعيد] - مطبعة عمان ومكتبتها (ط2)- مسقط 1995 للكاتب: حمد بن سيف البوسعيدي، وأشار إليه المحققان علي محمد إسماعيل ود. إبراهيم الهدهد لكتاب: [البلبـل الصــداح والمنهل الطفاح في مختارات الشعراء الملاح] الصادر عن مطبعة النهضة الحديثة - المنصورة (مصر) 2002م. وترجم له سعيد بن محمد الهاشمي في كتابه [غاية السلوان في زيارة الباشا الباروني لعمان] الصادر عن مطابع النهضة (ط1) - مسقط 2007م، وأخيرا ورد ذكره في كتاب: [نهضة الأعيان بحرية عمان] الصادر عن دار الجيل لمؤلفه: العلّامة محمد بن عبد الله السالمي. وآخر ما صدر عنه في طبعةَ رقميةَ في الأول من شهر محرم 1443هـ / أغسطس عام 2021م) عن دار محبوب للنشر الرقمي كتاب: "المتفرق من أشعار الشيخ عيسى بن صالح الطائي" للباحث سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني.

الأكثر قراءة