عبدالرؤوف المالديفي

 

عبدالله الفارسي

أخبرتكم في أكثر من سطر، وكتبتُ لكم في أكثر من مقال أن في السفر فوائد جمّة، ذكرها العرب قبل العجم، وأكدها البدو، قبل الحضر.. في السفر لا تذهلك الأماكن، بقدر ما يذهلك البشر.

حين اضُطررت إلى النكوص من أستراليا، بسبب مستوى معيشتها المرتفع والذي لا يتناسب مع دخلي البسيط المنخفض، وبعد أن عجزت عن الحصول على أي مُساعدة مالية من كل الجهات وكل الأشخاص الذين طرقت أبوابهم، قررت الهروب إلى دولة تتناسب ومستوى دخلي، فقررت التوجه إلى ماليزيا. وفي العاصمة كوالالمبور جمعتني الصدفة في شقة جميلة تتكون من غرفتين وصالة، غرفة سكنتها بنفسي، والأخرى كان يسكنها 5 من الشباب المالديفيين (من جزر المالديف) الفقراء، كانوا يتكدسون في غرفة واحدة بخمسين ريالًا في الشهر. بينما أخذت الغرفة الأخرى لوحدي، تبًا للفقر، وسحقًا للترف!

أولئك الشباب المالديفيون الفقراء كانوا قمة في الأدب ودماثة الخلق والكرم، حين علموا بقدوم شاب عربي للسكن معهم، ومشاركتهم الشقة، استقبلوني ببهجة وفرح وحفاوة. كان أحدهم وأروعهم عبدالرؤوف المالديفي، شاب أعجز عن وصفه، وإحصاء مناقبه، كان عبدالرؤوف في التاسعة والعشرين، شابًا فقيرًا من ضواحي العاصمة ماليه، استطاع الحصول على منحة دراسية في ماليزيا بعد أن قاتل من أجلها، وكافح للحصول عليها. ولأنه فقير لا يملك شروى نقير، فالحكومة الماليزية كانت تدفع لهذه الفئة من الطلاب مبلغًا رمزيًا يساعدهم في معيشتهم. لكن لأن عبدالرؤوف كان شابًا طموحًا ومتفائلًا، استطاع الحصول على عمل في مطعم للوجبات السريعة، في الفترة المسائية، وكان عبدالرؤوف شخصًا رائعًا بكل معنى الكلمة، ضحوكًا، بشوشًا، سريع البسمة، حاضر البهجة. كان يُناديني أيها العربي، فأقول له: أرجوك ياعبد الرؤوف لا تناديني أيها العربي، فأنا لا أعرف أصلي ولا أعرف من أي الدماء البشرية دمي وأشعر بالخزي والعار حين تلاحقني عروبتي المُعاصرة رغم أنفي!

ما زال جُل الآسيويين المسلمين يعتقدون خطأً أننا أحفاد الصحابة وأن دماءنا التعيسة التي تسري في عروقنا هي نفس الدماء النقية الشريفة التي كانت تجري في عروق المسلمين الأوائل وأبنائهم وأحفادهم!

كان عبد الرؤوف لا يدخل غرفته قبل أن يقرع باب غرفتي ليطمئن عليَّ، كان يحضر لنا بشكل شبه دائم البطاطس المقرمشة وقطع الدجاج المحمصة من المطعم الذي يعمل فيه، ولا يأكل شيئًا قبل زملائه في الشقة. كان يملك قناعة وأثرة لا مثيل لها.

من أغرب ما اكتشفته في هذا الرجل الجميل، هو حبه للحياة، وتفاؤله  المفرط، وثقته في الله، كان إذا اشترى قميصًا جديدًا أو بنطالًا جميلًا يشعر ببهجة عارمة، وإذا اقتنى قلمًا أو كتابًا يسعد سعادة كبيرة، كان يشاركنا كل لحظات سعادته، ويُمارسها معنا، ويوزعها علينا.

ذات مرة اشترى آلة حاسبة حديثة؛ حيث تخصصه في المحاسبة يتطلب منه ضرورة امتلاك واحدة؛ فجاء إلى الشقة حاملًا آلته الحاسبة الجديدة تملؤه سعادة غامرة لا توصف، فاحتفل معنا بهذه المناسبة واشترى لنا المرطبات والعصائر! لم أره يومًا طوال الأربعة أشهر التي قضيتها معه، عابسًا أو غاضبًا أو مكفهرًا، كان لا يعرف شيئًا عن الغضب، ولا علاقة له بالضيق والعبوس، رغم فقره المدقع، وظروفه الصعبة.

كنت أزوره في بعض الليالي في المطعم الذي يعمل فيه، وأنتظره حتى ينتهي من عمله، ونعود معاً مشيًا على الأقدام، نقضي 50 دقيقة نمشي في الشارع حتى نصل إلى بنايتنا السكنية. وكان طوال الطريق يضحك، ويتحدث عن جمال الحياة، وبياض المستقبل، وضياء الغد القادم.

وحين يقبض عبدالرؤوف راتبه في نهاية الشهر من المطعم، يكون ذلك اليوم عيدًا له وعيدًا لنا جميعًا سكان الشقة؛ حيث يحضر لنا ما لذّ وطاب من المعجنات والفطائر والحلويات، وهكذا ديدنه في كل نهاية شهر، رغم أن راتبه لا يتجاوز الثلاثمائة دولار! لكنها النفس الكريمة، والروح السخية هي التي تجعل من الثلاثمائة دولار في قلب صاحبها 3 آلاف دولار.

كان يتصدق على كل فقير يراه رغم ندرتهم في ماليزيا، ولا يمنع يده من العطاء أبدًا رغم حاجته لكل دولار، كم أنت عجيب أيها المالديفي الفقير.

ذات مرة سألته: لماذا كل هذه البهجة؟ ولماذا كل هذا التفاؤل العجيب أيها المالديفي العجيب؟ فيحضنني بفرح، ويقول: لقد فضلنا الله على ملايين البشر يا عبدالله، أنا أفضل من ملايين الفقراء والتعساء الذين يملأون هذا الكوكب أيُّها العربي! ألا يحقُ لي أن أبتهج وأفرح وأتفاءل؟!

تعالوا معنا هنا لنرى الكآبة بكل أنواعها، ونرى العبوس والسخط، والغرور بكل أشكاله وأصنافه.. شباب رواتبهم تتجاوز الألف ريال، ولديهم بيت جميل، وسيارة فارهة، وزوجة، وعمل مريح، ولا يعرفون كيف يبتسمون، لا يُجيدون الضحك، وكأن أفواههم مخاطة بأسلاك دقيقة من الحديد والمعدن، لا يسلمون على أحد، ولا يبتسمون في وجه أحد، ولا يمدون يدًا لفقير، ولا يُعينون محتاجًا، ولا يحملون في سياراتهم واقف طريق وعابر سبيل.

فسبحان الله الذي قسّم الغنى والرضا على القلوب، فأعطى الأرواح نصيبها من السرور، والعبوس والغرور!