د. محمد بن عوض المشيخي
تبادر وسائل الإعلام وخاصة الصحافة إلى ترتيب القضايا المهمة وإبراز الأهم في صفحاتها الأولى، وكذلك تركز القنوات الإذاعية والتلفزيونية على بعض المواضيع التي تراها مهمة وتُفرد لها الصدارة في مُقدمة نشراتها الإخبارية وبرامجها ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذا فضلًا عن التغطية المُباشرة لبعض الأحداث الأكثر أهمية من منظور وسائل الإعلام.
وفي نفس الوقت تتجاهل هذه الوسائل وتغمض عيونها عن قضايا وأحداث إنسانسة أخرى؛ جديرة بالتغطية وإطلاع الناس في هذا العالم المترامي الأطراف على ما يدور حولنا وعلى وجه الخصوص المُعاناة الإنسانية للأفراد والجماعات العادين الذين حرموا من حقوقهم وخذلهم الإعلاميون والصحفيون الذي يميلون إلى إبراز القادة وصناع القرار والمشاهير من الممثلين والرياضيين على حساب العلماء والمفكرين وعامة النَّاس.
وفي خطوة غير مسبوقة في عالمنا العربي، أفردت القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية والورقية مساحات واسعة من مضامينها للطفل المغربي (ريان) الذي يبلغ من العمر خمس سنوات، إثر سقوطه في بئر مهجورة في قرية نائية في شفشاون شمال المغرب؛ إذ تصدرت "محنة ريان" ومحاولة إنقاذه طوال خمسة أيام بلياليها العالم بأسره والعالم العربي على وجه الخصوص، الذي وحدته لأول مرة منذ سنوات قصة هذا الطفل ومعاناة أسرته. فقد قطعت قنوات الجزيرة والعربية وقناة "BBC" برامجها التقليدية وانتقلت مباشرة إلى موقع هذا الحدث الجلل؛ لتغطية جهود إنقاذ الطفل الذي ظل على قيد الحياة طوال أربعة أو خمسة أيام؛ فقد هبّ المغاربة من كل مدينة وقرية ووصلوا إلى شفشاون للتضامن مع ريان ووالديه في هذه المحنة وظلوا محتشدين حتى إعلان وفاته في الساعات الأولى من صباح الأحد. كما إن ملك المغرب وحكومته يتابعان لحظة بلحظة لجان الإنقاذ وسير عملها. الله يرحم ريان ويلهم والديه الصبر والسلوان ويعوضهم خيرًا. هناك من يتهم رواد وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب بانتهاك الخصوصة من خلال تناولهم هذه المصيبة، فقد ظهرت وسوم الاستغاثة على منصة تويتر (#انقذو_ريان)؛ إذ وصل الوسم إلى "الترند" العالمي؛ وذلك بدخول المغردين العرب على الخط. فكانت أيام صعبة قضاها الرأي العام من المحيط إلى الخليج يتسمرون أمام شاشات التلفزيون والمنصات المختلفة.
والسؤال المطروح الآن، من الذي يضع أجندة وأولويات وسائل الإعلام بشكل عام؟!
للإجابة على السؤال يجب الرجوع إلى أدبيات الإعلام وتنظير علمائه الأوائل؛ فنظرية أجندة وسائل الإعلام (Agenda Setting) تحاول أن تحصر الجهات ذات العلاقة بترتيب الأولويات في 3 جهات؛ أولها: كبار المسؤولين والرؤساء الذين يشعلون الحروب ويصنعون السلام إذا ما رغبوا في ذلك، ويتحكمون في الأحداث بأنفسهم، مما يترتب على وسائل الإعلام التعامل مع تلك الوقائع ونقلها عبر قنواتها المختلفة، فالأحداث هنا فرضت على الإعلاميين والصحفيين بدون سابق إنذار وحتى بدون إرادتهم. وعلى الرغم من ذلك لكل وسيلة إعلامية سياسية مُعينة تتجلى في المضامين التي تعبُر من خلال حراس البوابات الذين يستخدمون مقاييس مُحددة في إبراز الأخبار، وذلك من خلال مصالح وحسابات معينة. فعلى سبيل المثال، أعادت وسائل الإعلام الأمريكية التركيز بشكل مفرط ومتكرر على قضية الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران قبيل الانتخابات الأمريكية بثلاثة أيام، مما أدى إلى فوز رونالد ريجان على منافسه جيمي كارتر الذي فشل في تحرير الرهائن، وذلك في مطلع ثمانينات القرن العشرين.
أما الطرف الأهم في هذه المعادلة المتعلقة بأجندة الإعلام فهو الجمهور الذي يتلقى الرسالة الإعلامية ويتفاعل معها بالسلب أو الإيجاب. فهناك اختلاف في قوة الجمهور ونفوذه حول المعلومات التي يتلقاها من وسائل الإعلام من مجتمع إلى آخر؛ فالشعوب الحرة تتظاهر وتحتج على القرارات التي تصدر من القادة المتهورين، خاصة تلك التي تتعارض مع طموحات الرأي العام.
ففي الدول الغربية التي تتمتع بالديمقراطية، الجمهور هو الذي يُقرر لمن يصوت ويصل إلى الحكم في تلك الدول، بينما في دول العالم الثالث؛ الناس تأثيرها ضعيف أو معدوم في مجال تغيير الحاكم أو صانع القرار في بلده حتى في ظل الانتخابات المزعومة التي يتم الترتيب لها سلفًا وتحديد من يفوز بالرئاسة، باستثناء بعض الحالات النَّادرة!
ويكتمل هذا الثالوث بمعرفة دور القائمين على الإعلام واتجاهاتهم ومنظورهم إلى القصص الإخبارية التي يجب أن تجد طريقها إلى الجمهور، فيجب الاعتراف بأن الإعلام يبحث عن مصالحه، فالعاملون في قطاع الإعلام، أصبح قدرهم المحتوم، أن يكونوا ضحايا للنفوذ السياسي وتابعين للسلطة التنفيذية وخدمًا لها من حيث الترويج والتلميع والتغاضي عن كلمة الحق التي يُفترض أن تنشر عبر قنوات الإعلام المتاحة، فمراقبة السلطة التنفيذية غير مفعّلة كما يجب في معظم الأحوال، حتى في أعرق الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة، على الرغم من أنَّ الصحف والقنوات التلفزيونية لا تتبع للحكومة في ذلك البلد، لكن هناك علاقة تبادل مصالح بين الطرفين. فالحكومة الفيدرالية تملك الأسرار والمعلومات التي تخص بها وتسربها لبعض الصحف مثل: نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال، وتحجبها عن الصحف الأخرى وهذا يحصل أيضًا مع شبكات التلفزة الأمريكية الخاصة مثل "CNN" وغيرها. كما إنَّ الصحف الأمريكية تحتاج للإعلانات الحكومية التي ترفد الصحف بمبالغ مالية كبيرة، ووسط هذا الزخم من المصالح تضيع الحقيقة، فيتم إبراز قضايا على حساب أخرى.
وفي الختام.. حان الوقت لوسائل الإعلام العُمانية أن تستوعب الدرس المتمثل في تغطية الجانب الإنساني للأشخاص العاديين ومعاناتهم، على غرار ما تابعناه في الأيام الماضية. وأضرب مثالًا هنا بما بثه تلفزيون سلطنة عمان في نشرة العاشرة المخصصة للأخبار الرسمية، حول مواطن عماني اعتقل بشكل تعسفي من قِبل السلطات الهندية قبل بضع سنوات، فكانت كاميرات التلفزيون في استقباله عند قدومه إلى مطار مسقط الدولي قادمًا من الهند بعد إطلاق سراحه، وهو ما شكل سابقة في الإعلام الرسمي والخاص في السلطنة.
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري