"مرحبًا بك بن مسعود.. ياهلا بالغائب الحاضر"

 

علي بن سالم كفيتان

لا أدري كيف قفز هذا الشطر اليتيم من قصيدة ظفارية قديمة إلى سطح مكتب الذكريات، يُقال إن بن مسعود رجل لبق الحديث، يجيد مهارات التسلق بكل أنواع الحبال، لدرجة أنهم يقولون- والحديث ما زال للموروث الشعبي الظفاري- إنه يستطيع التوازن على خيوط العنكبوت، ومن كثر خفة يده يأخذ الكحل من العين، ومن شدة غبائي في الصغر حاولتُ أن أقلده، فكان نصيبي الكثير من الإصبات التي كادت تودي بحياتي.

لذلك تركت تلك المغامرات ومسحت القصيدة من مخيلتي، رغم أنَّ الاسم رنان في عالم اليوم، بعد أن أصبح علامة تجارية، والغريب أن الأب مسعود لا ناقة له ولا جمل، لكن اسمه الكبير حمل ابنه عاليًا، فسارت به الركبان وتخلد في موروثنا الحديث والمعاصر، فكلما طوته الأيام وجدناه شاخصًا أمامنا، مما يستوجب علينا ترديد قصيدة "مرحبًا بك بن مسعود". وسأكون ممتنًا لمن يجد النص الكامل لهذه المنحوتة من الموروث الشعبي العُماني العظيم.

حكوا عنه الكثير من القصص، ومنها أنه عمل أجيرًا في دكان سيده، بدأ حمالًا ثم مصففَ بضاعة، وبعدها كاتب حسابات، وفي كل مرة يُبهر سيده بنشاطه الزائد وأفكاره النيرة لتطوير المحل، فعينه مديرًا للدكان، ومع هذه النقلة النوعية للرجل تجمّدت الأرباح رغم فيضان الميزانية وزيادة الزبائن ووفرة المعروض، وفي كل مرة يقدم بن مسعود تقريره لسيده أن الفائض تم توجيهه لتوسيع المحل وتنويع البضاعة واجتذاب أسواق جديدة في أقطارٍ كالهند والسند وبلاد ما بين النهرين. تغير هندام الرجل وصار معروفًا في السوق، وتمَّ نسيان سيده وربيب نعمته في خضم تحركاته بين كبار التجار، فقام بفتح دكان صغير في ناصية السوق، وأقترح لسيده أن يُدرِّب ابنه الكبير على مهارات التجارة؛ فهي فرصة لكي يتحمّل المسؤولية، فإن نجح تولى شؤون مال أبيه، وإن خسر تراه دكان بن مسعود. وأمام هذا العرض المُغري وافق الأب، فهو لن يخسر شيئًا في كلتا الحالتين. وهنا صار ابن السيد أجيرًا عند بن مسعود، فأغدق عليه العطايا والهبات، وسامحه من الجلوس في المحل، مجرد آخر الشهر يمر لأخذ المعلوم والانصراف، وكلما سأل الأب ابنه كيفك مع بن مسعود، كال له المديح من كل حدب وصوب، ولما فارق الشايب الدنيا ألتهم بن مسعود الأخضر واليابس وطرد الولد.

احتل بن مسعود موقع الصدارة في بيت التجار، فأوصى به أحد المُقربين للملك الذي أكرمه وقربه وكعادته تسلق كل المفازات وصار خبيرًا بدهاليز الملك، فما حلمه بالليل يرسمه في الصباح في بضع قراطيس مزركشة بالألوان الجميلة والخرائط الزاهية ويقدمه للملك واقفاً على أطراف أصابعه من الحماس وماداً رقبته الطويلة تحت العرش لتوصيل فكرته، مُستعيناً ببعض الخواجات وشركاتهم العابرة للقارات، فتتم الموافقات وينطلق بن مسعود للواقع، فيجد مشاريعه التي على الورق يستحيل تنفيذها على الأرض، فتتزايد الخسائر وتكثر الشركات الوهمية، ولكنه لا يكل ولا يمل من الاقتراحات حتى صار هو من يُخطط مستقبل المملكة، فقد فتح أسواقًا في الوديان الموحشة، وأنشأ موانئ في وسط الصحاري الخاوية، ومع ذلك استلم الخيط والمخيط، حتى كادت أن تغيب المملكة في أتون طموحاته المجنونة.

لا أدري لماذا عاد الرجل للواجهة من جديد رغم كل تلك المُغامرات؟ ولماذا ما زال يُمسك بتلابيب مقترحاته الفاشلة؟

لم أجد إجابة، وأظن أن جميع سكان المملكة مثلي، يتساءلون عن التقنيات العالية الدقة التي يمتلكها للبقاء في دائرة الضوء، وكيف يجيد الانسحاب والمناورة، فقد أُشيع أنه مسجون، وقيل إنه موقوف على باب العدالة، لكنه حضر مُؤخرًا بكامل زينته وبنفس أسلوبه الجذاب وكلماته الآسرة، متحدثًا عن مستقبلٍ جديدٍ وفرصٍ مليونية ستنتشل الجميع من العوز والفقر إلى الغنى والرفاه. الغريب أن من كانوا في القاعة صفقوا له دون انقطاع، فاقتنعتُ أنَّ الرجل يمتلك كاريزما نادرة يجب أن تدرّس في أرقى الجامعات.. فلله دره من رجل صالحٍ لكل العصور والأزمان!

سيظل بن مسعود رمزًا خالدًا وأسطورة تُحكى لكل الأجيال، ولن ينقطع الشاعر الظفاري المُلهم بهبات كوس الجنوب من الترحاب به في كل مرة: "مرحباً بك بن مسعود.. يا هلا بالغائب الحاضر".