حارس البوابة

 

د. خالد بن حمد الغيلاني

khalid.algailni@gmail.com

@khaledalgailani

 

 

قد يبدو العنوان للوهلة الأولى غريبًا بعض الشيء، ولكنَّ الدارسين للإعلام يعلمون أنَّ "حارس البوابة" نظرية من نظريات الإعلام تعتني بالجوانب الاجتماعية، وتعمل على مراجعة المادة الإعلامية قبل وصولها للجمهور، بالشكل الذي يتسق مع احتياجات المجتمع ويتناسب مع توجهاته وقيمه الاجتماعية، وعاداته وتقاليده التي تلتزم الوسائل الإعلامية بها؛ سواء كانت واردة في النصوص القانونية التي تؤطر للعمل الإعلامي، أو أنها تمثل مسلكاً أخلاقياً تعارف عليه المشتغلون بالإعلام والعاملون في مختلف وسائله ووسائطه.

ورغم قناعة البعض بأن هذه النظرية تمثل عائقًا في وصول المعلومة على حقيقتها، أو أنها تحد من حرية التعبير، كما يفهمها البعض ممن يرون الحرية فضاءً منفتحًا على مصراعيه لا حدود له ولا ضوابط.

حقيقة الأمر- كما أراها- أن هناك فهمًا مغلوطًا لبعض المفاهيم، وتفسيرًا ضيقًا لها، ونظرة قاصرة. فنظرية حارس البوابة لم تأتِ لكبح جماح التعبير، وإنما جاءت لتحفَظ للمجتمعات نسيجها المجتمعي الواحد، وتضمن سلامة العلاقة البينية بين أفراده، وتحقق على المدى البعيد تماسكًا وتوافقًا يستطيع المجتمع من خلاله التصدي وبكل قوة وعزيمة لكل إشكالية محدثة، أو مدخلًا لا يروم إلا لإثارة الفتن وتقويض الأمن، والمساس بحبال العروة الوثقى التي ينبغي أن يكون لا انفصام لها.

واليوم وفي ظل ما نشهده من تنوع غير مسبوق، وتسارع غير مألوف، ونهم غير مبرر الأسباب تجاه وسائل التواصل التي أدخلت الغث بالسمين، وخلطت الحابل بالنابل فغدا الجميع إعلاميين، وأصبح الكل صحفيين، لهم حق النقد واللوم؛ بل وإصدار الأحكام التي لا مرتكزَ لها، ولا ضوابط تحكمها، ولا أخلاقيات تحركها من ناحية، وتمنع جماحها من ناحية أخرى.

نُصبح على أخبار وبيانات ومعلومات لا ندري صحتها ولا نعلم حقيقتها، ونمسي على كم آخر لا يقل عمّا أصبحنا عليه، فغدت الإشاعة نتيجة لذلك حقيقة ماثلة، وغدا الخبر واقعًا ولو كان من نسج خيال مؤلفه، ومما زاد الأمر شدة وضراوة، إصرار العديد من المؤسسات ذات العلاقة وصاحبة الأمر أن تلزم جانب الصمت الذي ليس هو في مقام الحكمة في مثل هذه الأحوال، ولربما هو في مقام اللامبالاة غير المحمودة والمطلوبة في مثل هكذا حديث وتداول وطرح إعلامي.

لذلك نحن اليوم في حاجة ماسّة إلى وجود حارس يقظ للبوابة، متربص بكل باعث ودخيل، واعٍ  لكل حدث وخبر، لا يمر عبر بوابته إلا ما يمكّن المجتمع وثوابته، ويُعزز قيمه وعراقته، ويبعث في بنيه دوافع الطمأنينة، التي تجعل منهم عناصر بناء وتنمية، وأيادٍ للعمل والعطاء لا تكل ولا تمل، نحن بحاجة ماسة إلى تفعيل دور هذا الحارس قانونًا وعرفًا وخُلقًا، فلا تصل إلا الحقائق المرتكزة إلى أدلة وشواهد، والمنبثقة من مشاهد ومسالك، أحداثًا تضع كل أمر في نصابه وحقيقته، وتمنع غير ذوي الاختصاص من العمل في مجال يمثل سلطة إما تسير بالمجتمع علوًا وسؤددًا، أو ترجع به انحرافًا وتفرقًا.

نحن كذلك بحاجة ماسة إلى أن يكون كل واحد منِّا حارسًا لبوابة وطنه؛ فلا يمر عبرها إلا الثمين من الأخبار والأحداث، ولا يسير خلالها إلا كل حادث حقيق به أن يصل الناس، أما منهج القص واللصق الذي هو سبيل لكثير من الحوادث المأسوف عليها فلا خير فيه ولا فائدة، وعلى من يعمل ذلك رغبة في لفت انتباه النَّاس أو سعيًا لزيادة عدد المعجبين والمتابعين عليه التوقف فورًا عن ذلك، والالتفات نحو ما يعزز علاقات أفراد المجتمع، ويوثق عراه، ويوطد رغباته في التقدم والرفعة، وإن لم تكن النصوص القانونية حاضرة، فالإخلاق أساس نبيل نبني عليه،ونعول عليه في مثل هذه الحالات.

وقبل الختام.. أتمنى ألا يفهم البعض حديثي على أنه دعوة لتكميم الأفواه؛ لا وألف لا؛ بل هي دعوة ليقوم الإعلام بدوره الناقد الهادف لوضع يده على مواطن الخلل وحلها، والفساد وبترها، والعمل الجاد المخلص ودعمها، إعلام حقيقي فاعل ينبري بنوه سعيًا وراء الحقيقة، وامتثالًا لنداء الواجب والوطن، إعلام متخصص يرعى الذمم ويظهر الحقائق، إعلام يتلقاه النَّاس بشوق ولهفة وحرص ومصداقية ومتابعة ومحبة.

ولنكن جميعًا حراسًا لبوابة وطننا الغالي الأبي، حُماة لمكتسباته، رعاة لأمنه وأمانه، وليدم مولانا السلطان المُعظم سلطان الخير والمجد والسؤدد، وليحفظ الله تعالى أبناء عمان الكرام أوفياء حماة أباة.