موقف في القطار

 

عبدالله الفارسي

أخبرتُكم في قصة سابقة قصة العجوز إنجلي؛ تلك السيدة العجوز التي تورطتُ في السكن معها في مدينة سيدني الأسترالية، لكن لم أخبركم بأنها كانت بخيلة جدًا، إنها نموذج للشخصية الإنجليزية الشحيحة في نسختها الأسترالية.

وأخبرتُكم عن صديقي هوان شو، صديقي الكوري ذلك الملاك الجميل الذي رحل سريعاً عن عالمنا الرديء.

في اليوم الثاني من وصوله بيت السيدة العجوز، استيقظنا معًا- أنا و"هوان"- على قرقعة عجوزتنا الكبيرة، وهي تقرقع صحونها الخاوية، مُعلنة جاهزية وجبة الإفطار، مُحذرة من التأخر عن موعد مائدتها الملكية، والتي تتكون من بعض قطع من الخبز المحمص، وقطعتي جبن رديء، وزبدة رخيصة، وبيضتين مقليتين، قسمت لنا فطورنا الهزيل كعصفورين صغيرين، وأخذت تلتهم طعامها كنعجة جبلية عجفاء!

جلسنا أنا وصديقي هوان بحذر شديد، والتزام تام، فأخذ هوان ينظر إليَّ بين الفينة والأخرى ويخفي ابتسامة أو ضحكة تنتظر الانفجار، فبادلته الابتسامة بمثلها، وقلت له ساخرًا: ما رأيك أيُّها الكوري الصغير في هذه الوجبة الملكية الأسترالية!! هنا، لم يتمالك هوان نفسه، فأنفجر ضاحكاً وفرقع المكان، حتى سقطت الملعقة من يده، غضبت عجوزتي العظيمة من هذا السلوك، وأصدرت فرمانًا جديدًا يقضي بحرمان أي شخص لا يحترم آداب الطعام، أو يسيء التصرف أثناء الجلوس على المائدة!! فقلت لها بصوت مرتفع ربما سمعه المارة بمحاذاة البيت: معذرة سيدتي فأنا المخطئ وليس هوان، فلقد أسمعتهُ نكتة مضحكة في غير أوانها، وكان يفترض مني ألاّ أعرض نكتي القبيحة هنا في هذا المكان المقدس!! فقالت بنبرة عسكرية قوية وحازمة: كلامي واضح، وتعليماتي مفهومة، لا نكات، لا ضحكات على المائدة!!

أهملتنا تمامًا ولم تُعرنا اهتمامًا، واستأنفت عملية المضغ لقطعة الخبز بطقم أسنانها الأصلي المثير للدهشة والمتماسك حتى هذا العمر دون أن يسقط منه سن واحد أو حتى يترنح ويهتز!!

نظرت إلى صديقي الشاب الوديع، قائلاً له: حذاري أن تضحك مرة أخرى، وإلاّ ستحرم من هذه الوجبة الملكية الفاخرة! فأكمل قهقهاته مرة أخرى، ولكن هذه المرة بعد أن هرب من المائدة، إلى غرفته، ففضل مضغ ضحكاته بنفسه والاستمتاع بها بمفرده، بدلًا من أن يمضغ هذا الفطور البائس الذي قدمته لنا هذه العجوز البائسة!!

خرجنا معًا أنا وصديقي هوان شو، متجهين إلى محطة القطار، والتي تبعد أقل من كيلومترين تقريباً من منطقتنا السكنية. ووصلنا إلى سكة الحديد وقطعنا تذاكرنا من مكتب التذاكر، قطعتُ تذكرتي إلى أقرب محطة من الجامعة التي سجلت فيها، ولا أدري إلى أين قطع "هوان " تذكرته، فأنا لم أسأله عن وجهته لهذا اليوم، ولكنه حتماً سيتوجه إلى مركز اللغة الذي سينمي فيه لغته الإنجليزية!!

جلسنا معاً في مقعد مشترك، وكانت مقاعد القطار متقابلة، وكان القطار نظيفًا لامعًا وصقيلًا، ويبدو من شكله أنه جديد، أو مُطوَّر حديثًا، وبشكل ملفت وجميل، وجاذب للرؤية، وهذه ميزة يجب علينا عدم إخفائها أو إنكارها للجنس الأوروبي، وتضاف إلى إنجازاتهِ المدنيّة الكبيرة.

أحيانًا تكون في وضع آمن وبحالة سلام وسكينة مع نفسك، ومتصالح مع مكونات وأثاث العالم الذي حولك، ولكن قد تحدث أشياء بسيطة بجانبك أو على مقربة منك تقلب مشاعرك رأسا على عقب، وتفجر عواطفك وتؤجج غرائزك!! فأنا، الجالس بأمان وخشوع وسكينة، واطمئنان في مقعدي بالقطار، وكل أجزاء جهازي العصبي نائمة، وأعضاء جسدي كانت خاملة، ساكتة، باغتتني الحوادث في أول النهار، ولم تؤجل غزوها لي في آخر الليل!! فقد كانت الصدمة الأولى التي أربكتني كثيرا في القطار، وشتت مشاعري، وبعثرت هدوئي، وشتت سكوني، هو "منظر"، قال لي هوان إنه منظر مألوف جدًا لدينا رغم شرقيتنا اللاهثة للانقراض، والموت! فماذا تتوقع من الأوروبيين أيها العربي العزيز؟!

المنظر كان في المقعد المقابل لنا مباشرة، شاب وسيم، وشابة صغيرة جميلة جدًا كانا يتعانقان بحرارة، وحماس، الفتاة كانت تقريبًا لا ترتدي شيئاً يستحق الذكر في الجزء السفلي من جسدها سوى تنورة قصيرة جدًا بحجم الشورت، وما لم يُخفَ كان أعظم!

طبعا، المنظر يعتبر مألوفًا معهم كما قال صديقي هوان، لكن العيون العربية الصحراوية الجافة لا يُمكنها مقاومة هكذا منظر مهما تسلَّحت بالأخلاق، وتلثمت بالآداب، واكتست بالطهارة، وتوشحت بالعفة والفضيلة!

الجفاف لابُد أن يلتهم المطر، لابُد أن يُعانقه ويحضنه بعنفٍ، وشوقٍ، وخشونة، العيون الجافة المطمورة بالطين والغبار لابُد لها أن تغتسل بالماء العذب الزلال الساقط من السماء، إنه الغيث حين يصطدم بالصخر، معانقًا الجفاف، إنه السيل حين يلتهم الصخر، ويحتضن اليابس!! إنها الفطرة، إنها الغريزة الأم، إنها الغريزة العظمى، إنها الجمرة الخبيثة، إنها البلاء البشري، إنها الشقاء الإنساني!!

لقد مارست عيوني كل أنواع التحديق، والتركيز والبحلقة المعروفة لدى الجنس البشري عبر التاريخ! التصق الشابان معا، ليصبحا جسدًا واحدًا ولكن بكامل ملابسهما! وأشعلا نيرانًا، وحممًا كانت خامدة في جسدي، هامدة في عقلي، لقد أشعلا حممي، وفجرا براكيني أنا فقط، فكل من حولي كان مشغولًا بنفسه، أو عابثًا بشيء كان يمسكه بيده، فليس هنا من يكترث لهذا الفيلم الصباحي السخيف إلاّ رجلٌ مثلي، تعصف بقلبهِ نسمة هشة باردة من نسمات المرأة، وتزلزل جسده رعشة طائشة من رعشاتها القاتلة!!

حقيقة.. أشعلاني لدرجة الغليان والفرقعة، رغم برودة الصباح الملتصقة بمقاعد القطار البلاستيكية الباردة، والمتسربة من نوافذه الزجاجية الواسعة، لم أتمكن من الوصول إلى الجامعة التي كنت مقررًا الوصول إليها؛ بل لم أعرف إلى أين أوصلني القطار، لقد تسكعت في الشوارع دون غاية أو هدف. فعدت في آخر النهار إلى بيت عجوزتي وأنا أغلي وأفور، دخلت مباشرة إلى الحمام دون أن أسلم على السيدة العجوز والتي فغرت فاهها كفقمة جائعة بسبب تجاهلي تحيتها والسلام عليها. دخلت الحمام فأغرقت جسدي المرتعش في حمام دافئ طويل حتى هدأت نفسي وسكنت جوارحي وانطفأت جمرتي.