حماية أخلاقنا.. حماية أوطاننا

 

د. صالح الفهدي

لسنا بحاجةٍ كي نستهلَّ بالقولِ إن وجود الأُمم وتقدُّمها مرهونٌ بقدرِ أخلاقها؛ لأنَّ هذا أمرٌ مسلمٌّ ومفروغٌ منه، وقد سُأل وزير التربيةِ الياباني عن سرِّ التقدم في اليابان، فقال: إن ذلك يعود إلى تربيتنا الأخلاقية، وقد فرضت اليابان مؤخرًا تدريس مادة الأخلاقيات في المدارس.

وفي الواقعِ، هُناك من بيننا من يشكِّك في أثرِ الأخلاقيات على المجتمع، ويستخفُّ بها ويحسبها انتقاصًا من الحرية التي فصَّلها على مقاسِ هواهُ ومزاجه، وفضلاً عن ذلك يستهترُ بمن يناشدُ بها، ويصفهُ بالرَّجعي والمتخلَّف، فهو يعتقد أن الأخلاق ضدَّ التقدم، مع أنه لا يخفى إلا على جاهل ما يحدثُ في الغرب من انحدار أخلاقي شنيع تحت شعار "الحريات" و"حقوق الإِنسان"، حتى لتصل بالإنسان الذي كرَّمه الله إلى مصيرٍ أضل من الحيوان..!

المصيبة أن الأُمم المتحدة التي تعدُ راعيةً ونصيرةً لحقوق الإنسان تريدُ فرض المساواة بين الشَّواذ والأسوياء من البشر، وترى في ذلك حقًّا طبيعيًا للجميع، وتسعى للإطاحة بالقيم التقليدية المحافظة للشعوب والمجتمعات لأجل شواذٍ منحطِّين، ينوون نشر رذائلهم وقباحاتهم في المجتمعات تحت غطاءٍ قانوني؛ بل وأخلاقي!!

واقعُ الحالِ يدلُّ بكل جلاء على أنَّ هناك غزوٌ هائلٌ يرمي إلى الشذوذ وتحطيم الأُسرة، وتحقير الأخلاقيات تحت مسميات العصرنة، والموضة، والحرية، وحقوق الإنسان والشهرة الفاسدة، والحياة المرفهة والنجاح الظاهر وغير ذلك من الشعارات الفارغة التي يجري خلفها القطيع دون تحكيم العقول..!

لنضرب أمثلةً على بعض الوسائل المستخدمة لهذه الغايات الداعرة: الألعاب الإلكترونية التي تثير الشهوات وتصنع في الأدمغة عوالم مركَّبة ما تلبث أن يطبِّقها أصحابها على أرضية الواقع نظراً لاستحكامها بالخلايا العصبية وتصديق العقل الباطن لها، وفتح مسارات إدمانٍ لها، وخلق مسوَّغات معينة، ولهذا ما يدلُّ على واقعيةِ أثره؛ فكم من لعب لعبة "الحوت الأزرق Blue Whale" قد ارتكب جرائم، وكم من لعب "نداء الواجب Call Of Duty" قد تملَّكه العنف، واستمرأ القتل، وسوَّغ للجنود الأمريكان القتل دون مبرر..!!

ليس بوسعك اليوم أن تفتح تطبيقًا معيَّنًا، فالإعلانات الفاضحة للألعاب الإلكترونية تفرض نفسها عليك فرضًا، كما إنك لا تكاد تفتح صفحةً من الصفحات حتى تهاجمك الصور والمواقع المثيرة للشهوات المنفلتة على الفور، ولا تكاد تبحث عن موضوع حتى يقودك إلى مواقع منحرفة.

في كتابه "ظاهرة الألعاب الإلكترونية.. وهوية النشء المسلم" يتحدث الهيثم زعفان عن أن مطوِّري وصانعي الألعاب هم شركاء التربية، وصناعةُ الثقافة الآن، وأنهم يعكسون ثقافاتهم ومعتقداتهم على صناعاتهم الإلكترونية، وفَهْمُ هذا مهمٌّ لتصور واقع تلك الألعاب التي تكشف- وفقًا للمؤلف- مستوى تعلّق كثير من النشء بها، وإدمانه عليها؛ مما سهّل انتقال الحمولات الفكريّة، والخلفيات الثقافية لتلك الألعاب إلى فكرِهم وأذهانِهم، وامتدت تأثيراتها حتى إلى سلوكِهم وممارساتهم. ونبّه على هذه الفئة بالذكر -كما يُرى- لكونها فئة صاعدة، سريعة التأثر، ضعيفة المكتسبات العلمية، ولا زالت لا تملك بناءً إيمانيًّا متماسكًا، وإلا فالواقع صارخٌ أنَّ ظاهرة الألعاب الإلكترونية بسطت نفوذها حتى بلغت صفوف الكبار.

شبكة "نتفليكس" التي تنتج المسلسلات والأفلام على أنواعها هي شبكة ترفيه في الظاهر، ولكنها شبكة موجَّهة للحط من القيم، وتمييع الأخلاق، وتسخيف المعتقدات الدينية؛ إذ إن أعمالها لا تكاد تخلو من السلوكيات ذات الطبيعة الشاذة من قبيل (فعل قوم لوط، السحاق، زنا الأقارب، وغيرها من الفواحش)، إلى جانب التشكيك في الدين وإنكار الوجود الإلهي، وهذه الشبكة قد بدأت تنتج أفلامًا عربية تحمل هذه المساويء، كفيلم "جن" في الأردن، و"أصحاب.. ولا أعزّ" في مصر، بغرض "تطبيع" هذه المشاهد الفاجرة، واعتبارها جزءًا من الحياة..! وقد لاقت هذه الأفلام اعتراضًا جماهيريًا واسعًا، لكن يبدو أن هذه الشبكة المفسدة هي واحدة من أخطر الوسائل التي تديرها حركات هدفها تخريب الأخلاق، وإفساد الفطرة البشرية السوية.

مع هذه الوسائل المخرِّبة ماذا نفعلُ نحن بإزائها لحماية قيمنا وأخلاقنا حتى لا تصبح كل هذه الأفعال الشاذة المنافية للطبيعة الإنسانية أمراً طبيعياً بل مستساغاً ومبرراً؟! حقيقة أنا لا أرى مشاريع وطنية ممنهجة تقوم بها أيَّة جهة، وهذا الأمر الخطير!

أما دول كُبرى كالصين وروسيا واليابان فقط اتخذت مؤخراً إجراءات للحد من سريان هذه السموم في مجتمعاتها؛ إذ أطلقت الصين حملة ضد المشاهير الفاسدين الذين أفسدوا الشباب، وضد ميوعة الرجال.

ويذكر ليونز في مقالةٍ له بعنوان "ونغ هيونغ.. الانتصار والرعب" أن ذلك يتزامن مع "إعلان الحكومة الصينية حملة صارمة لفرض نظام يهدف إلى السيطرة على مشاهير الانترنت المبتذلين، الذين يروّجون أنماط الحياة الفاسدة، وإلى حل مشكلة الفوضى التي أنشأتها ثقافة المعجبين على الانترنت؛ هؤلاء الذين يقلدون المظاهر الجمالية الأنثوية للنجوم الذكور في فرق الغناء الكورية، الذين يوصفون بشكل مُلفت للنظر بـ(xiao xian rou) أو (little fresh meat)، وهو مصطلح صيني يشير إلى النجوم الصغار الذكور الوسيمين، وهم الفئة التالية على القائمة بعدما قطعت الحكومة عهدًا على نفسها بأن تضع حدًّا للرجال المُخنّثين وظهورهم على شاشات الشبّان سريعي التأثر بما يرون.

وقد سبق أن أقرَّت وزارة التعليم الصينية في يناير 2021 برنامج "رعاية القيم الرجولية" لدى الأولاد في المدارس، بدءًا من صفوف رياض الأطفال حتى المدرسة الثانوية؛ لتعزيز القيم الرجولية بوسائل وطرق مختلفة.

روسيا هي الأخرى تحرَّكت ضد حركات الشذوذ، وانحدار القيم التي عُرف بها المجتمع الروسي، ولروسيا جهودها منذ سنوات طويلة لمكافحة ما يسمَّى بمجتمع الشذوذ "مجتمع الميم" في ميدان الأمم المتحدة، وتعاونت مع جمهورية مصر العربية ضد أي ذِكْرٍ للتوجه الجنسي، الهوية الجنسية، أو النوع الاجتماعي كما تحالفت مع دول "منظمة التعاون الإسلامي" و"مجموعة أفريقيا" لإعلاء خطاب "القيم التقليدية" في الأمم المتحدة.

السؤال الذي لا بُد منه: ماذا نفعلُ نحنُ لتحصين أخلاقياتنا التي يصيبها التسمم من جرَّاء تسريب هذه الجرعات السامة من الأفكار المدسوسة، والأفعال المتهتكة أخلاقياً؟! أينَ هي مشاريعنا؟ أين هو التعليم الذي يركز على الأخلاقيات بصورة مكثفة؟ أين هي الأنشطة والفعاليات والبرامج التي تدعم دعماً حقيقياً لتعزيز الأخلاق، وترصين القيم الأصيلة؟!

لا يمكن أن نمضي كما يقال "على البركة" أي دون تخطيط، ولا وعي، وإنما علينا أن نعي تمامًا أن أثر هذا الصمت، والسكون كبيرًا ومؤلمًا على مستقبل أوطاننا التي تتخلى تدريجيًا عن قيمها بالسخرية من القيم الرفيعة، وتقليد القيم الغربية المبتذلة، وتشويه الصورة المثالية الجميلة للإنسان المسلم، وتبجيل القدوات التافهة. هنا ننادي بأعلى صوت: عليكم أن تنتبهوا لهذه الأفكار السامة، والأخلاقيات المنحطة التي تحيطنا من كل حدبٍ وصوب.. وتشحذوا هممكم لتحصين أبنائكم من هذه الهجمات الفتاكة التي تصيبُ في مقتل، وأيُّ مقتلٍ أعظم من نسفِ الأخلاق الفاضلة للمجتمع! يقول مؤلفا كتاب "التربية الأخلاقية": "الأخلاق كانت وما زالت وستبقى المنظومة التي تحفظ وتؤمِّن الأفراد والجماعات بمنأى عن السلوكيات أو الأفعال السيئة التي تفتك بوحدة المجتمع، وتدمره، وتذهب به إلى الهلاك والضياع والانهيار".