علي الرئيسي
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
ينشر معهد الأرض بجامعة كولومبيا، والذي يترأسه الاقتصادي الأمريكي المعروف جيفري سايكس، مؤشرات للسعادة والذي يعتمد بصورة أساسية على استبيان حول جودة الحياة، وترتيب دول العالم في هذا المؤشر؛ حيث تحتل الدنمارك وكوستاريكا ونيوزيلندا دائمًا ترتيبًا متقدما في المؤشر.
ويرى البعض أنَّ هذا المؤشر أكثر أهمية من مؤشر إجمالي الناتج المحلي للفرد، والذي يقوم باحتساب إجمالي الناتج المحلي مقسومًا على عدد السكان. وقامت مجلة المال والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي بتقديم أهم العوامل التي أدت لتبوؤ الدول الثلاث لهذه المراكز المتقدمة. وهنا قراءة مختصرة وبتصرف من التقرير المذكور.
تتقدم الدنمارك على الدول الأخرى في المُؤشر لما يتمتع به المجتمع الدنماركي من عوامل الثقة. الناس في الدنمارك يدركون أن تصرفهم في المجتمع هو نتيجة لجهدهم الجماعي. سواء كان ذلك الفعل نتيجة جهد شخصي متنور أو نتيجة لإيثار خالص. وفي الدنمارك يثق المواطنون بأن الحكومة تتخذ من السياسات ما يُحقق المصلحة العامة، كما إن الحكومة تثق أن المواطنين سيحافظون على النسق الاجتماعي العام، بينما المواطنون على ثقة بأن الآخرين سيبذلون أقصى جهدهم في الحفاظ على المصالح العامة للمجتمع.
هذه الظاهرة الاجتماعية لعبت دورًا حيويًا خلال أزمة الجائحة، مما ساعد الدنمارك في خفض التكلفة البشرية التي عانت منها الدول الأخرى. ويشير الباحثون إلى أن الثقة المتبادلة في المجتمع الدنماركي هي الميزة الأهم التي جعلت الدنمارك تتقدم على دول أخرى في مؤشر السعادة. بالإضافة طبعاً لأنظمة الرعاية الاجتماعية، من ضمنها : إعانة البطالة السخية، مجانية الرعاية الصحية والتعليم العالي، ورعاية الطفولة المدعومة بشكل كبير.
وما يميز نموذج الدول الإسكندنافية، هو مزيج من الثقة والتسامح والمؤسسات القوية والثابتة، هذا إضافة إلى التاريخ الطويل من التنمية والديمقراطية المرنة، وفي الأخير غياب الفساد.
الحياة الصافية "Pure Life" الشعار الذي يتردد على مسامعك إذا زرت كوستاريكا؛ أي العيش ببساطة الذي يميز هذا البلد الصغير في أمريكا الوسطى. إذا كنت تنعم بصحة جيدة، ولديك عمل، وتقضي وقت فراغك مع العائلة والأصدقاء فأنت تحيا حياة صافية (pure vida). وفي تقرير السعادة العالمي ترتيب كوستاريكا 16 في المؤشر، وهي إضافة إلى التشيك البلد الوحيد من الأسواق الناشئة التي سجلت حضورا ضمن أعلى 20 دولة في المؤشر.
ويُعزى هذا الترتيب العالي في مؤشر السعادة إلى العلاقات الاجتماعية القوية والشعور العالي بالانتماء إلى المجتمع والجماعة. الناس ودودون، ودوران الحياة أكثر بطءًا، إنه مجتمع يخلو من المنافسة الشرسة؛ حيث لا يعنيهم كثيرا التنافس على التقدم في السلم الوظيفي كما يذكر أحد الباحثين.
وتتميز البلد بوجود نظام قوي للرعاية الاجتماعية، الكوستاريكيون يتمتعون بنظام تعليمي مجاني، ونظام للتقاعد يشمل الجميع. وهو البلد الوحيد في أمريكا الوسطى يتمتع 100% من السكان بوجود الكهرباء والمياه الصالحة للشرب. ولقد اهتمت كوستاريكا منذ عقود بالصحة العامة مستثمرة بشكل مكثف في الوقاية من الوفيات والعجز الصحي. في بداية السبعينات صرفت كوستاريكا على الخدمات الصحية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من كثير من البلدان المتقدمة بما فيها المملكة المتحدة. أدى هذا الاستثمار؛ حيث في عام 1985 بلغ متوسط عمر الفرد الأعلى في أمريكا اللاتينية وتعادلت في ذلك مع الولايات المتحدة الأمريكية. معدل وفيات الأطفال انخفض من 74 وفاة للألف في عام 1970 إلى 17 وفاة لكل 1000طفل في عام 1989. وما جعل نموذج كوستاريكا فارقًا هو النظام الصحي في البلد.
وفي عام 2019، أعلنت حكومة العمال في نيوزيلندا برئاسة جاستن أردين، عن موازنة للتعامل مع تحديات تواجهها البلد منذ فترة، من ضمنها العنف المنزلي، الفقر الذي يُعاني منه كثير من الأطفال هذا بالإضافة إلى افتقاد وجود المسكن الملائم. الموازنة التي سميت موازنة الصحة العامة، حددت خمس أولويات: الصحة العقلية، صحة الأطفال، ومساعدة السكان الأصليين، بناء وطن منتج، والتحول الاقتصادي. خصصت الموازنة مليارات لمعالجة مشاكل الصحة العقلية، ومعالجة الفقر الذي يعاني منه الأطفال، وخصصت الملايين لمعالجة العنف الموجه ضد الأسرة.
نيوزيلندا البلد ذو الخمسة ملايين نسمة، تتمتع بمؤشرات جيدة في الاهتمام بالشأن العام مقارنة بدول عديدة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، غير أنها تعاني من مشكلات العنف الأسري وفقر الأطفال. ومن ضمن أهم عوامل الاهتمام برفاهية المجتمع، هو أن الوصول إلى حياة جيدة يجب أن يكون ضمن منهج كلي، سواء كان ذلك الحصول على الخدمات الصحية، التعليم، أو العلاقة القوية بالمجتمع.
لقد تغير الاهتمام من الدخل إلى الاهتمام برفاهية الأفراد حيث إن الموازنة الحالية هي مقاربة بين صحة الاقتصاد وصحة الأفراد في المجتمع؛ فالاستثمار في الصحة العامة سيكون له تأثير مباشر علي تعافي الاقتصاد. كما إن هناك اهتمام متزايد بمنح المجتمعات المحلية مزيدًا من الصلاحيات في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
ويقول إيميلي ماسون إنَّ "مصطلح الرفاه (Wellbeing) هو المصطلح الصحيح ولكن نحتاج الى إجراءات وسياسات وبنية تحتية تضمن أن المصطلح يعمل بشكل فعّال". صحيح إن نيوزلندا عانت مثل الدول الأخرى من الجائحة ولكن اهتمامها بالرفاه، السعادة، وبالبيئة، هذا إلى جانب رسوخ الديمقراطية، يجعلها نموذجًا متفوقاً على كثير من النماذج الاقتصادية في العالم.