حين ينتصر الدم على السيف

 

د. رفعت سيد أحمد

قدمت الشرطة المصرية- التي احتفلت قبل أيام بيومها السنوي "عيد الشرطة"- خلال العقد المنصرم فقط (2011 -2021) أكثر من ألف شهيد ومئات الجرحي في مواجهتها للإرهاب الداعشي وحده، وكانت جنبًا إلى جنب مع الجيش المصري العظيم في الدفاع عن الوطن والدين في مواجهة "تتار" هذا العصر من الدواعش والأخوان والتكفيريين.

مواجهات تاريخية بدأت في الأربعينيات من القرن الماضي، وامتدت عبر فترات حكم كل من عبد الناصر والسادات ومبارك؛ وصولاً إلى زمن الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهي فترات فصلناها بالوثائق والأرقام في موسوعتنا "تنظيمات العنف الديني في مصر من 1928 -2018"، الصادرة في يوليو 2021 من بيروت عن مركز ودار نشر "العروبة للدراسات التاريخية" في ثلاثة آلاف صفحة، بها توثيق لبطولات المصريين في مواجهة دواعش الزمن الماضي والحاضر، وبخاصة بطولات وتضحيات الشرطة والجيش. اليوم، نقف أمام أحدث فصول تلك التضحيات والبطولات، إنها بطولات الشرطة المصرية في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي الذي كان اسمه قبل 2014 تنظيم "أنصار بيت المقدس"، فماذا تقول الحكاية؟

قبل أيام قليلة، أيدت محكمة النقض المصرية حكم الإعدام الصادر من محكمة جنايات أمن الدولة العليا بحق المُقدم محمد عويس ضابط الشرطة المفصول وآخرين، من عناصر تنظيم بيت المقدس الإرهابي، وقضى الحكم كذلك بمُعاقبة متهمين بالسجن المؤبد والمشدد؛ لإدانتهم بقتل الشهيد المُقدم محمد مبروك الضابط بقطاع الأمن الوطني، وارتكاب 54 عملية إرهابية أخرى في ربوع البلاد، كما قضت المحكمة بتغريمهم 150 مليونًا و700 ألف جنيه.

التحقيقات مع عناصر "أنصار بيت المقدس"، شهدت إحالتهم إلى محكمة الجنايات بقرار من النائب العام الراحل المستشار هشام بركات؛ لاتهامهم بتفجير مديريات أمن الدقهلية والقاهرة وجنوب سيناء، واغتيال 40 من ضباط وأفراد الشرطة، وقتل 15 مواطنًا، والهجوم على منشآت شرطية في القاهرة والمحافظات. وبلغ عدد المتهمين في القضية 208 متهمين، بينهم 102 أُلقي القبض عليهم، ومحبوسون احتياطيًا على ذمة القضايا، وأمر النائب العام بضبط وإحضار 46 متهمًا هاربًا.

وكشفت تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا، أنَّه لولا يقظة وتضحيات رجال الشرطة المصرية لكانوا خربوا البلاد، فلقد خططوا لاستهداف وزارة الدفاع ووزير الدفاع- آنئذ- المشير عبد الفتاح السيسي، قبل استقالته من منصبه، كما خططوا لاستهداف المجرى الملاحي لقناة السويس باستخدام غواصة، عن طريق تحميلها بكميات كبيرة من المواد المتفجرة وإلقائها في المجرى الملاحي للقناة. وتبين أن المتهمين استخدموا 3 عبوات في تفجير موكب وزير الداخلية واستخدموا 800 كيلوجرام من المتفجرات في استهداف مديرية أمن القاهرة. وأشارت التحقيقات إلى أن المتهمين حاولوا اغتيال المقدم محمد مبروك مرتين قبل واقعة قتله. وشرحت تحقيقات القضية، دور المتهم الضابط الخائن محمد عويس البالغ من العمر 40 عامًا، الضابط السابق بإدارة المرور، واسمه الحركي (أبو عبد الرحمن)، والذي كان يعمل في مرور القاهرة قبل حبسه، إلا أنه باع نفسه بالرخيص، واستغل مكانته وقدرته على الاطلاع على بيانات سيارات المصريين، واستغل عمله وأمد أنصار بيت المقدس بأرقام لوحات السيارات لاستخدامها، كما أمدهم بمعلومات عن سيارات الشهيدين المرجاوي ومحمد مبروك، ونال هذا الخائن جزاءه هو ومن معه من التنظيم الذي أُسس على الخيانة وشراء الذمم وكراهية الإسلام المحمدي الأصيل، واستبداله بدين آخر لا علاقة للإسلام به، هو دين الإرهاب والقتل والخيانة.

لنعد إلى بعض صفحات نشأة هذا التنظيم لنعرف كيف تأسس وكيف استمر ثم كيف استطاعت الشرطة والجيش في مصر أن ينهيا وجوده ويجففا مصادر قوته في سيناء وباقي أرجاء الوطن. وتُجمع الحقائق المتوفرة حول تنظيم "داعش ولاية سيناء" أن اسمه الأصلى الذي عرف به هو "أنصار بيت المقدس"، (وقد عُرف بهذا الاسم منذ عام 2011 من عناصر فلسطينية سلفية وبدوية من أهل سيناء)، وبعد أن بايع هذا التنظيم أبوبكر البغدادى سُمي بـ"داعش ولاية سيناء"، وكان ذلك في (10/11/2014).

إن تاريخ الإرهاب والغلو الديني في سيناء، ينبئنا بأنَّ النشأة الأم لهذا التنظيم بدأت عام 2004 وكان الاسم المعروف به هو "التوحيد والجهاد"، والذي إليه تنسب أحداث الإرهاب في مدن: طابا وذهب وشرم الشيخ، بين عامي 2004 و2005، والذي كان يقوده الفلسطيني السلفي هشام السعيدني الشهير بـ"أبي الوليد المقدسي"، وهو الرجل الذي تتلمذ على أيدي أبي إسحاق الحويني وفتاويه التكفيرية القائمة على إلغاء الآخر والشطط الديني. وبعد أن قُتل السعيدني في 2011، ينبئنا تاريخ التنظيم أنه قد توالى على قيادته كل من: محمد حسين محارب الشهير بـ"أبومنير"، وبعد مصرعه عام 2013، تولى كل من محمد فريج زيادة (الذي قتل أيضًا) ثم شادي المنيعي وهشام العشماوي قيادة التنظيم، وهذا الأخير انشق حديثًا مكونًا تنظيميًا إرهابياً جديداً أسماه "المرابطون". وقد تولى أمور الفتوى وإباحة القتل لهذه التنظيمات دعاة من أبرزهم: حمادين أبوفيصل، ومحمد عزام، وأسعد البيك، وسليم سُلّمي وغيرهم. تلك أبرز الأسماء للقادة والمفتيين، كما ينبئنا تاريخ "أنصار بيت المقدس أو داعش ولاية سيناء لاحقًا"، ويجب أن نقول هنا إن هؤلاء الإرهابيين الخونة يلتصقون باسم القدس الشريف، لكنهم أبعد الناس عن القدس وعن الإسلام.

وارتكب تنظيم "أنصار بيت المقدس أو داعش ولاية سيناء لاحقًا" أكثر من 90 حادثًا إرهابيًا فى سيناء، أغلبها ضد الشرطة المصرية، التي قدمت التضحيات في سيناء وبعض المحافظات المصرية، وفي المنطقة الغربية (حادث الفرافرة مثالًا)، وبعض تلك الأعمال الإرهابية كان محدود الأثر والصيت، والبعض الآخر صاحبه ضجيج دعائي وسياسي واسع مثل (مذبحتي رفح الأولى والثانية، ومحاولة اغتيال وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم، ومذبحة كرم القواديس، والكتيبة 101، والعريش، ومديريتي أمن القاهرة والمنصورة، واغتيال النائب العام هشام بركات، وواقعة الشيخ زويد فى 1/7/2015).

 

وتشير المعلومات المتاحة عن العمليات الإجرامية لتنظيم "أنصار بيت المقدس أو داعش ولاية سيناء" خاصة الفترة التالية للإطاحة بحكم محمد مرسي، أن وتيرتها قد زادت وأضحت أكثر شراسة وضجيجًا، الأمر الذى دفع بعض المراقبين للربط بين جماعة الإخوان المسلمين وهذا التنظيم، سياسيًا وتنظيميًا ولوجستيًا، إضافة إلى أن هذه العمليات الإرهابية ومن واقع التحقيقات مع أعضاء التنظيم، ومن واقع قدرة الشرطة المصرية علي كشفها، تستند فى نجاحها على عناصر مهمة من أبرزها:

(1) سرعة الحركة بالمركبات الخفيفة وامتلاك عناصر التنظيم لقدرات خاصة مع فهم لطبيعة الدروب الصحراوية والخبرة الواسعة فى قص الأثر، مما سهل لهم الهجوم وسرعة الهرب فى أغلب العمليات التى قاموا بها.

(2) توافر المعلومات لدى التنظيم عن أجهزة الأمن عبر الجواسيس وعمليات الاختراق والرصد فضلًا عن التخطيط مع تعدد الأساليب القتالية (اشتباك- سيارات مفخخة- تلغيم- عمليات انتحارية.. إلخ).

(3) التواجد وسط القبائل والاختباء السريع مع استخدام سلاح الترهيب (قتل التنظيم بعض شيوخ القبائل المتعاونين مع الأمن بهدف إحداث صدمة الترهيب وسط القبائل)؛ بل لم يتورع التنظيم عن قتل بعض نساء القبائل، ممن اتُهمن بالتواصل مع الدولة والجيش المصري.

هذه العوامل وغيرها سهلت لإرهابيي تنظيم "أنصار بيت المقدس أو داعش ولاية سيناء" القيام بعملياتهم النوعية الخطيرة، والتى يلاحظ بشأنها أنها تتم على فترات متباعدة (كل 3 أو 4 أشهر تقريبًا) مع بعض العمليات الصغيرة غير المؤثرة سياسيًا أو إعلاميًا خلال تلك الأشهر.

ثبت لدينا، ومن خلال القراءة المعمقة لأدبيات هذا التنظيم ووثائقه، ولسلوك قياداته السياسي والإعلامي، أن ثمة تواصلًا تنظيميًا ومخابراتيًا- سريٌ فى أغلبه- بينه وبين عدة أجهزة مخابرات إقليمية، مع تقاطع وظيفي وربما تواصل تنظيمي ولوجستي مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، إلى جانب علاقات تاريخية ممتدة ومعقدة مع فصائل سلفية متطرفة فى قطاع غزة (منها جيش الإسلام بقيادة ممتاز دغمش)، علاوة على أن كثيرًا من أسلحة "أنصار بيت المقدس أو داعش ولاية سيناء" التى استُخدمت فى العمليات النوعية الكبيرة، هي إسرائيلية الصنع، ومنها المتفجرات التى استُخدمت فى تفجير مديرية أمن الدقهلية، وأسلحة ومتفجرات مذبحتي رفح الأولى والثانية، وعملية كرم القواديس، والفرافرة، والشيخ زويد وغيرها.

هنا يأتي تفسيران؛ الأول: أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلى "الموساد"، وعبر طرق ملتوية وعملاء، اخترقوا هذا التنظيم وهو الذى مدهم بتلك الأسلحة. الثاني: أنهم قد اشتروها عبر الفصائل المتطرفة فى غزة، أو عبر تجار السلاح. وفي كل الاحوال وأيًا كانت التفسيرات سيظل المستفيد الاكبر لعمليات هذا التنظيم وغيره من تنظيمات الخانة والعنف هم أعداء مصر في الخارج وفي الداخل.

ستظل هناك حقيقة ساطعة وهي أن تضحيات الشرطة المصرية (التي قدمت شهداء كبار أمثال محمد مبروك) والجيش المصري (الذي قدم أيضا شهداء كبار أمثال المنسي)؛ هما حائط الصد الأول والأكبر الذي أدى إلى تقلص هذا التنظيم الإرهابي وبدايات نهايته، وتلك هي سنة التاريخ وحقائقه تجاه من يعتدي أو يخون الوطن.

وكل التحية لرجال الشرطة في عيدهم والرحمة للشهداء العظام.