عندما يتسع المفهوم

 

أ.د. حيدر أحمد اللواتي **

 

من المظاهر التي تنتشر في عالمنا الإسلامي والتي لها آثار إيجابية مهمة ظاهرة "الإطعام"، ويقصد منها إطعام الجائع وسد حاجته من الطعام، وهي من الأمور التي حثَّ عليها الإسلام وشجعها أيُّما تشجيع؛ بل ربما تعد من أهم العبادات الاجتماعية.

ولا شك أن لهذه العبادة أهدافًا غيبية يسعى المسلم لتحقيقها فهو يلتمس رضا الله ومحبته، ولكن وبالمقابل فإن لهذه المظاهر الاجتماعية أهدافا دنيوية سعى الإسلام لتحقيقها وهي محاربة الفقر وسد حاجة الفقراء والمعوزين من الطعام في المجتمعات الإسلامية.

إلا أن الملاحظ أن مفهوم الإطعام في أذهاننا عمومًا يكاد يضيق وينحصر في مصداق تقديم وجبة معدة للأكل أو تزويد الفقير والمحتاج بمبلغ من المال يشتري بها ما يسد به جوعه، وشخصيا أجد أنني أحتاج إلى جهد عقلي وحضور ذهني لتوسعة المفهوم ليشمل مصاديق أخرى غير التي أشرت إليها، وأظن أن هذا التضييق في المفهوم يعاني منه أغلب أفراد مجتمعاتنا الإسلامية.

لكن تضييق مفهوم الإطعام بهذه الصورة له آثار سلبية على تطور مجتمعاتنا الإسلامية، بل إن مسألة تضييق مفهوم الإطعام قد يؤدي إلى إهدار الطعام وعدم الاستفادة منه في بعض الأحيان، لأن توفر الطعام في فترات معينة بكميات تفوق حاجة الناس اليه يؤدي إلى تلفه، واحتمال حصول أمر كهذا وارد جدا وخاصة في المواسم الدينية، فقبل عدة أعوام مثلا نشر تقرير مفاده أن حوالي 5000 طن من المواد الغذائية تم التخلص منها في أول ثلاث أيام من شهر رمضان المبارك في إحدى مدننا الإسلامية.

ومن هنا فلربما يكون من المهم العمل على توسعة مفهوم الإطعام في ذهنية المسلم بشكل يتلاءم مع التطور الذي تعيشه البشرية بحيث يتم تضمينه مصاديق أخرى ربما تكون أكثر فائدة من المفهوم السائد في أذهاننا.

ويمكن القيام بذلك من خلال تغيير الأمثلة التي عادة ما يستمع لها المسلم والتي ربما ساهمت في تضييق المفهوم وحصره في عدد من المصاديق الضيقة، فمثلًا نادرًا ما يتم الربط بين الاطعام وبين توفير وظيفة للفقير توفر له لقمة العيش وتسد جوعه.

ولربما تكون الطريقة التي أطعم بها مهندس زراعي قبل عقود من الزمن فقراء العالم ووفر لهم الطعام مثالا مناسبا يوضح المقصود بشكل جيد، ففي منتصف القرن الماضي، بدأ العالم يتحسس بأن كارثة كبيرة قادمة وخاصة مع الزيادة المهولة في أعداد السكان وكانت الكارثة تتمثل في عدم توفر الغذاء الكافي للبشرية وأن الجوع سيتحول إلى أحد الأسباب الرئيسية للموت وتوقع بعضهم بأن مئات الملايين في العالم سيموتون جوعا وخاصة في البلدان الفقيرة ذات الكثافة السكانية الكبيرة كالهند مثلا، لكن كل تلك الهواجس والمخاوف لم تحصل، وكان أحد أهم الأسباب التي منعت وقوعها هو مهندس زراعي يدعى نورمان بورلوج.

قام هذا العالم الكبير بعد أن أنهي دراسته بإنشاء فريق بحثي مميز ووضع نصب عينه هدفًا واضحًا وهو سد جوع البشرية وإطعامها، وذلك من خلال البحث العلمي، فقام بعمل أبحاث هامة في سبيل زيادة كفاءة الإنتاج الزراعي من القمح وقام ببحوث علمية رائدة في هذا الخصوص واستطاع أن يعثر على سلالة قوية من القمح تعرف بالقمح القزم، مما سمح له أن يوصل المكسيك للاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح.

وفي منتصف الستينات، قدم هذا الصنف من القمح (القمح القزم) إلى الهند وباكستان وازداد إنتاج القمح بشكل مذهل؛ بل وبفضل التقنيات التي تم التوصل إليها تضاعف إنتاج الأرز أيضا، وعد نورمان بورلوج الأب الروحي للثورة الخضراء، فلقد استطاع بعلمه أن يضاعف الإنتاج الغذائي إلى ثلاث أضعاف وأنقذ مئات الملايين من الموت جوعا بفضل التقنيات التي توصل إليها.

وتثمينا لدوره الكبير حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1970م، لما لأثر كبير لتقنياته التي توصل إليها في نشر الأمن الغذائي ومحاربة الجوع.

لا أعلم إن كان نورمان بورلوج قد قدم في حياته مبلغاً من المال أو وجبة طعام لفقير من الفقراء ولكن ما أعلمه جيدا أنه مازال يطعم ملايين الفقراء والمساكين حول العالم وما زالت تقنياته وإبداعاته تؤتي أكلها وتطعمهم وتوفر لهم لقمة العيش.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس