لا وقت للموت!

 

فاطمة اليمانية

 

"وإن سألوك عن سبب عزلتك؛ فقل لهم: أخيطُ جراحاً لا ترونها!"

 

***

طالبتي "بشائر" تكرّر دائما:

  • سأموت!

فإذا طلبتُ منها الصمت، قالت:

  • لا أستطيع.. سأموت إذا لم أتكلم!

وإذا طلبتُ منها الإجابة على سؤالٍ ما، قالت:

  • سؤال صعب، سأموت!

وعندما بدأ البرد يدخل خجلا في بداية الشهر الماضي، أخذت ترتجف في الحصّة مرددة:

  • سأموت من البرد! سأموت!

فحكمت علينا جميعا بالحرّ طوال الحصّة! والاختناق! بعد أنْ عقدنا معها اتّفاقا أنّنا سنغلق المكيف والمروحة مقابل إغلاقِ فَمِها عن كلمة:

  • سأموت!

فإذا أخلّت بالشرط، سنفتح المكيف على حرارة 18مْ، والمروحة على أقصى طاقتها على الدوران!

فظّلت صامتة عشر دقائق تراقب فمَهما! والسبورة! وتتلفع بشالها الأبيض الذي أوصلت طرفه إلى أنفها! ثمّ تلثمت حين أحسّت أنّ لسانها قد يخونها! مبتلعة الكثير من الكلمات قبل النطق بها!

لكنّها أطلقت ضحكة صاخبة عندما كنت في ذروة الشرح أسدد برأس القلم شاشة العرض؛ لأثبت لهنّ أنّ بعض القواعد النحوية تحتاج إلى إعادة نظر!

وأنّ المفعول به لا بدّ أن يكون كائناً ملموساً قبل وقوع فعل الفاعل عليه، بينما المفعول المطلق يقع من فعل الفاعل نفسه، ولو لم يكن من مشتّقات الفعل!

عندما استيقظت "وفاء" من سباتها ممددة ذراعيها للخلف؛ ضاربة يديها في جدار الحائط متألمة بسبب قوة الضربة! فمسحت دمعة فرّت من مقلتيها الحمراوين، وجفنيها المثقلين بالنوم! ودخلت معي في جدالٍ بصوت مليء بالرقاد؛ لتكفرّ عن خمولها، ونظرات الاستغراب التي سدّدناها لها؛ ولتثبت أنّها يَقِظة، مُنْتَبهة! ولم تكن نائمة طوال الحصّة!  وعندما قلتُ:

  • "أضرم الرجل نارا": النار مفعول مطلق، وليس مفعولا به كما يدّعون!
  • من ادّعى!
  • معظمهم!

وقالت لي؛ كأنّها تعرفهم:

  • من بالتحديد؟! يا أستاذة؟
  • طبعا ليس فرس النهر المُتثائب في الخلف!

فلم تتمالك "بشائر" نفسها، وضحكت مُرَدِدة:

  • سأمـــــــــــــوت!

حدجتها غضبا؛ فاستدركت:

  • سأموت بسبب الضحك!

فاقتربتُ منها بعد سماع الجرس، منبهة:

  • بشائر.. في الحياة أشياء كثيرة ستجعلك تشتهين الموت! ثم ستكتشفين بأنّكِ مُجْبَرة على التعلّق بأسباب الحياة؛ فلا وقت للموت!

وتبعتني وفاء أو "فرس النهر" كما أطلقن عليها زميلاتها لكثرة تثاؤبها، ونومها في الحصّص؛ معتذرة عن جدلها معي في الحصّة، فقلت لها:

  • لا تعتذري على طرح الأسئلة! اعتذري على رقادك في الحصّة!
  • لو تعلمين كيف أقضي ليلتي يا أستاذة؟!
  • كيف؟
  • أمي مريضة، وأشقّائي صغار يحتاجون إلى من يعتني بهم، ووالدي يعمل في مدينة بعيدة، فاضطّر لإعداد طعام العشاء، والتنظيف والكنس، وتجهيز ملابس المدرسة، ومساعدتهم في حلّ واجباتهم المدرسية!

وتحدثت لمدّة دقيقتين عن وضعها الأسري الكاذب! ظنّا منها أنّنا لا نعرف قصّتها المشهورة مع المعلمات حول مأساة العائلة، وقصّة البؤساء التي تسردها للجميع، فقلت لها:

  • عائلتك الفيسبوك، وتويتر،  والتيك توك!
  • أستاذة!

ثم وضعت يديها على فمها وهي تتثاءب؛ رغم ذلك اتّفقتُ معها بأنْ تقوم بإعداد صفحة على الفيسبوك مخصّصة لدروس اللغة العربية، فرّحبت بالفكرة، وأبدت استعدادها لإنشاء أكثر من صفحة في مواقع التواصل الاجتماعي، فقلت لها:

  • توجد مشكلة واحدة!
  • ما هي؟
  • كيف ستجدين الوقت لإعداد الصفحات يا كوزيت؟![1]

ضحكت على نفسها وكذبتها، وقالت لي مكرّرة أسطوانة الموت المشروخة التي يرددها الجميع، وهي تمسك بطنها:

  • بطني! سأموت من الضحك!
  • لقد عقدنا اتّفاقا قبل قليل! فلا وقت للموت!

ولأمتطي سيارتي! أو حماري لأنّها كانت تحتضر بردا! لاستعجالي القيادة؛ محاولة الّلحاق بالشاحنات والسيارات الفارهة، وسيارة أسطوانات الغاز التي وضع سائقها تنبيها في الخلف:

  • اترك مسافة آمنة!

لأضغط على "البريك" بعد توقفه المباشر؛ وأكاد اصطدم به؛ فيركن سيارته جانبا، ومؤشرا لي للوقوف:

  • كنّا سنموت! بسببك!
  • لم نمت! لن نموت الآن! لا وقت للموت!

فلوّح ساخرا:

  • حريم!

ولأكمل طريقي في شارع الخدمات؛ مبتعدة عن الصراع مع القامَات، والمقامات الرفيعة؛ واكتفي بمقارعة السيارات الصغيرة، والدراجات الهوائية، وبيك آب العم هلال الأحمر الذي يزمّر كلّما شاهد سيارة يعرفها، وعمال النظافة الذين يلقون التحية على كل عابر طريق؛ طمعا في مبلغ يسير من المال! أو قنينة ماء بارد، في هذا الجو الكئيب! المخذول! الذي لم أدرك طعمه، ولا نكهته، باردا أو حارا، جافا أو رطبا!

قاصدة أقرب مطعم وجبات سريعة؛ لأحضر لإبني وجبة أطفال مع لعبة، بعد أن أكّد لي بألّا أعود إلى المنزل بدونها! ثم إلى بقالة الحارة؛ لشراء رصيد للعاملة التي تنتظر عودتي بفارغ الصبر، بعد انتهاء اشتراكها وهي تتحدث إلى زوجها مسعود! لتتصل من هاتف ابني متذمرة:

  • انقطعت المكالمة في وجه مسعود!
  • من مسعود؟!
  • زوجي!
  • ومن ساجد إذا؟
  • شقيقي!

فينقطع الإرسال الذهني أثناء مكالمتها، لأسألها مرّة ثانية:

  • ماذا تريدين؟!
  • رصيد! رصيد يا مدام! رصيد!
  • لماذا؟
  • لأكلم مسعود!
  • حسنا.. عشر دقائق وأصل!

كل ما هنالك جدول أعمال روتيني قاتل، يخفف وقعه تصرفات عفوية لأناس جعلهم القدر يجوبون في دائرة حياتي الشبيهة بإطار عجلة ابني المثقوبة! يقود الدراجة بقدمه! ويتخيل بأنّها تسير! وهو الذي هدّدني:

  • إذا لم تحضري لي وجبة أطفال مع لعبة، سأموت!

وسمعت صوت العاملة خلفه:

  • وإذا لم تحضري رصيدا لي: سأموت!

جميعهم يهدّدوني بالموت! لأردّ عليهم غاضبة أو ساخرة أو متذمرة:

  • اغربوا عن وجهي؛ فلا وقت للموت!

فأحضرت الوجبة، والرصيد؛ ووقفت أمامي العاملة معاتبة:

  • تأخرتِ!  لماذا لا يوجد في منزلنا اشتراك منزلي كما في منازل الآخرين!
  • لأّنّنا معرضون للمغادرة في أيّ وقت!
  • قلتِ هذا الكلام بداية العام، وما زلنا هنا!
  • يوما ما سنغادر!
  • متى! أتمنى ألّا يمرّ هذا الشهر إلّا والاشتراك المنزلي موجود!

وغادرت المكان، وخلفها ابني يرقص طلبا ومؤيدا!

ثم عادت وقالت:

  • اطلبي من العامل تركيبه هنا! وأشارت إلى غرفتها!

قلتُ لها مشاكسة:

  • ما رأيك أن نركبه على خوذة ترتدينها!
  • سيؤلمني رأسي!
  • إذا كان سيؤلمك؛ فصوت مسعود المزعج أكبر مسبب للألم!
  • مسعود! إذا لم أتحدث إليه يوميا سأموت!
  • ألا تنتهي أحاديثكما!
  • لا تنتهي!
  • ماذا تقولون؟!

ضحكت خجلا، وكان الأحرى أنْ أسألها:

  • وماذا لا تقولون؟!

يوما ما سمعتها تشتكي له من عدم إتقانها صنع المعجنّات، فأعطاها الطريقة بالتفصيل الممل، وكان معها على الخطّ، وهي تضع الطحين ببطء، وتضع الخميرة في كوب من الماء الدافئ، والقليل من السكر والملح، وكوب حليب! فأشارت لي:

  • مدام! كوب حليب بسرعة!

فأخرجت لها كوب الحليب، وكنت أساعدها في إعداد العجين على صوت مسعود الأجشّ! وهو يشجعها بعد كل خطوة تقوم بها، فحصلنا ذلك اليوم على عجين مثالي، ونِلْتُ لا شك كمّا من الألقاب الساخرة باللغة البنغالية، لأنّ ضحكاتهما بعد كلمة مدام كانت مثيرة للشكّ فيما يقولان عنّي!

دخلتُ غرفتي تاركة طعام الغداء، مكتفية بتأمل وجه ابني النائم في سلام بعد أكل وجبته، ووضع اللعبة قرب مخدّته، تلاحقني نظرات الامتنان من العاملة التي جلست على الدرج تعيد تعبئة الرصيد لتجديد الاشتراك.

هاربة إلى عالمي، باحثة عن سلام داخلي، مشتهية مكالمة تافهة، وثرثرة لا قيمة لها بعيدا عن الشعور بالاضطهاد، والرفض والاستغلال والبحث عن موقع في قلوب الآخرين بالإكراه والقسر، وبعيدا عن الموت!

ذلك الشيء الغامض الذي يهرب منا كلّما اقتربنا منه! ويأتي إلينا فجأة كلما تجنّبنا ذكره! فيموت من يخطط للحياة، ويعمر طويلا من يكرهها! نكاية به!

  •  الموت.. الموت.. الموت!

رفعتُ رأسي للسقف، متأملة المروحة! متسائلة عن كمّ الغبار الذي غطى أجنحة المروحة، ولم أنتبه! ومن باب أولى ألّا تنتبه العاملة المشغولة بمحادثات مسعود وثرثرته! وما دام النعاس غادر؛ فلا بأس في المساعدة في تنظيف غرفتي!

فأحضرتُ درجاً، وشالا قطنيا قديما كنتُ أخرجته لاستغلاله في التنظيف، ثم صعدتُ الدرج، ووضعت طرفا الشال على جناح المروحة؛ ودخلت العاملة فجأة حاملة سلّة الملابس؛ وعندما شاهدتني صرخت صرخة أيقظت ابني معها:

  • مـــــــــــدام!

كانت تعتقد بأنّي سأنتحر! وكانت صرختها كفيلة بإثارة الرعب في قلبي! وشككت لوهلة بأنّي كنتُ سأنتحر! رغم أنّ رغبتي في تنظيف المروحة هي الفكرة الوحيدة المستحوذة على دماغي تلك اللحظة!

رغم ذلك لم أعاتبها كثيرا، لكنّني ظللت أرشقها بنظرة غاضبة طوال أسبوع! وظلّت ترمقني بعيون دامعة مُشْفِقة طوال ذلك الأسبوع!

ويوما ما بعد انشغال ابني بمشاهدة التلفاز، أحضرت لي كوباً من الشاي بالليمون، وقالت لي بلكنتها، مسعود يقول:

  • انتحار! موت! موت.. نار!
  • سبحان الله!

(النهاية)

 

 

 

 

 

 

[1] اسم بطلة رواية "البؤساء لفكتور هوغو".

تعليق عبر الفيس بوك