هل جربتم الكتابة لأبنائكم؟

 

عبدالله الفارسي

غالباً ما نتَّهم الحياة بأنَّها هي من حرمتنا من البوح لبعضنا.. ولم تمنحنا فرصة التعبير عن امتناننا لأبنائنا، نتهمها زورا وبهتانا بأنها منعتنا من أن نقول لهم عبارة جميلة في ليلة هادئة... أو كلمة رشيقة في يوم بارد.. ساكن.

نتصادف معهم في أرجاء البيت وجنباته.. ونتصادم بهم على مداخله ومخارجه  دون أن نقول لبعضنا "مرحبا أيها الحبيب" "وأهلا أيها الجميل"، نُمارس مشاعرنا بصمت.. ونزرع عواطفنا بفتور.. ونسقيها بوجل.. ونقطفها بحياء.. إنها مشاعر مكبوتة في صناديق رقيقة من الدم والأحشاء تتأرجح في جوانحنا وتترجرج في صدورنا.. وترقص في أعماقنا حتى الموت.

البارحة شعرت برغبة شرسة عنيفة عارمة جارفة لكتابة رسالة إلى ابني البكر..رسالة حب.. رسالة عشق.. رسالة امتنان.. رسالة اشتهاء رسالة اعتذار رسالة شكر.. رسالة غناء وعناق

إنها رسالة تجمع في داخلها كل مشاعري المزدحمة في صدري

وتطلق سراح كل أحاسيسي الفائرة المكتظة في وجداني ..

إنها رسالة عرفان وامتنان وشكر لابني البكر الذي أشعل الأبوة في صدري.. وأيقظ الحياة في داخلي.

لديّ قلمٌ جميل..

وأوراق كُثر وعاطفة أبوية ناضجة صاخبة متفجرة.

لذلك سأكتب له بعضاً من السطور لم يطعمها من قبل.

وسأهديه باقة من الكلمات لم يذقها سابقًا.

........

ابني العزيز يزيد :

أعذرني كثيرا على تقصيري العظيم.. فلم يسعني العمر الماضي والذي ذهب هباءً وانسلّ من بين يديّ ومن خلفي دون أن أدركه.. فقد كنت الهث في هذا الوطن الغالي لأجلك ولأجل إخوتك.

فأعذرني لأنني لم يسعني أن أقول لك هذا الكلام في وقته المناسب وزمنه الصحيح ولحظته المواتية.. فنحن للأسف لم نتربى على التعبير عن مشاعرنا..

و لم نتعلم البوح بما في صدورنا.

ولم نحصل على تصريح الكشف بما في قلوبنا..

إننا مجتمعات تعيش على الكتمان.. وتستعذب الكبت والحرمان.

مجتمعات خجولة جداً درجة الخوف..

صموتة كتومة درجة الموت.

ولكن.. لا أقول بأنَّه قد فات الأوان.. وإنما دائماً هناك فرصة أخيرة تهديها لنا الحياة للتصحيح.. والرجوع.. والتوبة.. والغفران...

دائماً هناك فرصة أخيرة للتطهر.. والتوبة والاغتسال والصلاة.

دائماً هناك فرصة أخيرة للبوح.. والاعتراف بالحب وكتابة المشاعر وإثبات العرفان.

ابني العزيز : يجب ألا نغادر الحياة وفي قلوبنا كلمة جميلة لم نقلها لمن يستحقها..يحب ألا نودع أحبتنا دون أن نهديهم ما زرعوه في قلوبنا. جريمة كبيرة أن تغادر الحياة وفي أعماقك بوح رقيق لذيذ لم يسمعه صاحبه..

ابني العزيز :

حين رأيتك في ساعاتك الأولى من دخولك لهذا العالم كنت أنا في مثل عمرك تمامًا.. كنت أخطو خطواتي الأولى في الخامسة والعشرين..

كنت شابًا مليئاً بالحياة.. معبأ بالقوة.. مكتنزا بالأمل ومرتديا الطموح.. متوشحا الجمال.. ومرتديا الرجولة.

فجئت أنت.. لتملأ عالمي بهجة ورغبة.. ونشوة وصخبًا وفرحًا ومغامرة.

ابني العزيز :

أتذكر كل لحظاتك الأولى في سريرك الصغير وأنت ترفرف بذراعيك كفرخٍ ضيئل أنيقٍ يُعانق الهواء.. ويضاحك النسمات.

كبرت أمام عيني دقيقة دقيقة..

نبتت أوراقك ورقة ورقة وتفرعت أغصانك غصنا غصنا.. وظهر ريشك ريشة ريشة يوماً بعد يوم.

 ولا أذكر أنني فوت يومًا من طفولتك الأولى دون عناق.. أو ضمة.. أو قبلات حرّى. كنت بجانبك كنت بجوارك أشحن الحياة في داخلك.. وكنت في داخلي تغرس الأبوة والحنان في فؤادي.. كنت بالنسبة لي ليس مجرد الابن الأول الذي يحمل أسمي ويُؤكد أحقيتي في البقاء والنماء والاستمرار.

وإنما كنت بمثابة روح نادرة باهرة دخلت روحي.. فرفرفت داخلي وهي حبلى بالحياة.. فملأت عمري أغاريد وزخارف.. وأغاني.. وضحكات.

ابني العزيز :

أعترف لك.. بأنك كنت ابنا عجيبا... ابنا رائعا كنت ساكنا هادئا كنهرٍ جميلٍ مُتصالح مع السماء.. متناغم مع الأرض.. متآلف مع الكائنات. لا تعصف به الريح.. ولا تحرك مياهه الأمطار والهزات.

ابني العزيز :

من عجائبك أنك لم تشعرني أبدًا بهمّ الأبناء.. ولا بثقل مسؤولية الآباء.. لقد حملت عني عبء الطريق.. وقلق المصير.. ومؤونة الرفيق. فربيت نفسك بنفسك.. وصنعت نفسك من تلقاء نفسك.

لم تحتج إلى جهود مُضنية لتكبر..

ولم تكلفني أموالاً طائلة لتعلو وتنضج.. ولدت رجلاً قبل أوانك.. وأضحيت شيخًا قبل قرارك. فكان حريّا بي أن افتخر برجاحة عقلك.. وكان لزاما عليّ أن أفتخر بدماثة خُلقك. لم تكلفني تربيتك سوى عاطفة جياشة.. وحب دفاق ولم أدفع لأجلك سوى أمل صادقُ.. وغاية نبيلة.

 ابني العزيز :

أنت شهادتي التي كنت ألهث خلفها عبر السنين..

وأنت مرتبتي التي سعيت وراءها طوال الطريق.

ربما تكون أنت الشيء الوحيد الجميل في حياتي...

أو بمعنى أصح أنت بذرة الجمال الأولى في بستان الحياة خاصتي. رغم وجود أنواع أخرى من جماليات الدنيا..

ولكن بحق أنت أجملها. بل لعلك أنت الدفقة الوحيدة التي منحت الروح نشوتها.. ونشاطها.. وحياتها. بل أؤكد أنك الشريان الوحيد السالك.. بين الأوردة المتعطلة.. والشرايين المغلقة.

ابني العزيز :

سامحني مسامحة الصالحين لأنني لم أقل لك هذا الكلام في وقته المناسب.. ولم أسكبه عليك في زمنه المفترض.. فكما قلت لك.. تربيتنا كانت تربية غريبة.. وتعاملنا مع بعضنا له قوانينه العجيبة.. وكما قال الشاعرالجاهلي :

"وينشأ ناشئ الفتيان منّا

على ما كان عودهُ أبوه "!

وهكذ كنت معك.. قلبي ممتلئاً بالحب والعبير .. ولساني عاجز عن البوح والتعبير..!!

كنت أتمنى لو قضيت معك كل لحظة من حياتي..

واستمتعت بقربك بكل دقيقة من عمري.. كنت أتمنى لو قضينا ساعات عديدة أعلمك التجويد.. ونتدارس الترتيل.. كنت أتمنى لو قضينا وقتاً أطول في قراءة السنة وفهم الشريعة.

كنت أتمنى لو شاركتني كل ورقة قرأتها من أوراق فكتور هيجو.. وغوته وعمونيل كانت.. ودستوفسكي.. كنت أتمنى لو مشيت معي في جمهورية أفلاطون.. ومدينة الفارابي.. ومنهج الغزالي.. وطرقات المشائين وسفسطة السفسطائيين.. كنت أتمنى لو دخلت معي عالم دستوفسكي.. وتولستوي.. وابن الفارض وابن طفيل.

كنت أتمنى لو جلست معي نحلل كل قصة كتبها تشيخوف.. وكل عبارة قالها لمبارت.. وهيجل.. وطه حسين والطيب صالح.

كنت أتمنى لو ناقشتني في كل قصيدة خطها المتنبي ورسمها محمود درويش.. ونقشها نزار قباني.. وخاطها محمد الماغوط.

كنت أتمنى لو عارضتني فيما كتبه ماركس.. وما قاله جون لوك.. وما صرح به فرويد.

كنت أتمنى لو جادلتني فيما قاله عبدالرحمن مُنيف.. وغسان كنفاني.. ونصر الله إبراهيم.. ومحمود شكري وعبده خال.

كنت أتمنى لو سهرنا بعض اليالي لنقرأ ثلاثية أحلام مُستغانمي.. وأسطورة إيزبيلا الليندي.. ونتجول في ثلاثية نجيب محفوظ وخفافيشه الغريبة.. ولكن للأسف.. فالحياة لا توافق على التصاق العلاقات وثباتها ولا تستسيغ التحام الأرواح ببعضها.. إنها تعترض على تماسك القلوب.. وربط المشاعر.. فمن شيم الحياة أن تفكك.. وتعطل.. وتفرق.. وتمزق ولكن من شيم الإنسان أن يُحب.. ويعشق.. ويغرم.. ويبوح.. ويرسم عواطفه بألوان زاهية في الصدور.. وينحتها في الأرواح درجة الخلود.. فحبي لك خالدٌ... وعشقي لك باقٍ ما بقيت الأرواح..

ابني العزيز :

اعذرني لأنني لم أكن ثرياً ولم أملك مالا وفيرا ولا منصبا رفيعا لكي أحقق لك مستقبلا مشرقا وغدا واعدا.

اعذرني بكل مشاعرك الأنيقة الرقيقة لأنني لم أتمكن من مساعدتك في الحصول على الوظيفة التي كنت تتمناها والتي تتناسب مع تخصصك وقدراتك وطموحك.

أقسم لك بكل الأيمان الغلاظ  لقد حاولت مرارا وتكرارا وتكرارا ومرارا انتشالك من وظيفتك التعيسة الحالية ولكني عجزت تماما.

فلم أتقرب في هذا الوطن الجميل من "هامور" ليساعدك ويخدمك ولم أتعرف على "قرش" لينتشلك ويرفعك.

وليس لي علاقة مطلقاً بأولئك المُتربعين في القمة المتحكمين في اللقمة.

ولا أملك القدرات النفسية والمواهب الجسدية للتذلل والانبطاح والانحناء والتوسل وتقبيل الأيادي.

ابني العزيز :

شق طريقك بنفسك في هذه الأرض الجافة القاسية فهذا هو نصيبك.

واعبر هذا النهر المليء بالتماسيح بمفردك فهذا هو قدرك.

وسأدعوا الله مبتهلاً متمنيًا لك أن تصل إلى مُرادك وتحقق غايتك

حفظك الله أيها الابن البار..

وسدد خطاك..

ومتعك الرحمن بكل ما تُحب وتعشق.. وتتمنى.

والدك المحُب..