د. عبدالله باحجاج
تواردَ إلى دائرة اهتماماتي عنوان المقال بُعَيد تغريدة لي انتشرت في كل مواقع التَّواصل الاجتماعي بسرعة البرق، وهي تتحدث عن خمس نساء في ولاية طاقة كنَّ يبعن المأكولات المحلية على الأرض ما عدا واحدة تبيع في محل من مواد صلبة ثلاث منهن على طريق طاقة مرباط، والاثنتان على الطريق الساحلي لطاقة، القاسم المُشترك بينهن جميعا، هو المُعاناة؛ فقد كنَّ يبعن في ظروف سيئة: الشمس والحرارة والرطوبة والمطر، وعند اندلاع "بوخريقة" وهي رياح شمالية نشطة مصحوبة بهبات قوية مثيرة للأتربة والرمال، تهب على ظفار في مثل هذه الأيام، يأتي الأسوأ، ولا يتمكنَّ من الاستمرارية في البيع.
وعندما أزور ولاية مرباط مرورًا بطاقة، وما أكثر زياراتي الأسبوعية لها، أتوقف عند أم سمير على الشارع لشراء الخبر الظفاري و"القشاط"، وأثناء زيارتي لها قبل أسبوعين، لم أجد أم سمير، وتلكم اللاتي يبعن على الأرض في مكانهن المعتاد، ووجدتهن داخل أكشاك حديثة تليق بالمكان والزمان، وتحفظ صحتهن وكرامتهن، ولما سألت أم سمير عن هذا التَّحول الذي يثلج الصدر؟ ذكرت اسم سعادة والي طاقة، ومن ثمَّ علمت أنها كانت بتمويل من شركة تنمية نفط عُمان في إطار مسؤوليتها الاجتماعية.
وعقبها، تساءلت من الميدان: كيف أخذت ولاية طاقة زمام هذه المبادرة الإنسانية وتركت نظيرات نساء طاقة في صلالة يُعانين المُعاناة نفسها، وكنت قد كتبت عنهن مقالات وتغريدات، ووضعهن مثل نظيراتهن في طاقة؟ كيف تنفرد الجهوية/طاقة بهذا السبق عن حاضرتها صلالة رغم أنَّ صلالة تحتضن قلب السلطة المحلية، وأدواتها التنفيذية الضخمة؟ لذلك وجهت الشكر لسعادة والي طاقة على هذه المُبادرة الإنسانية بامتياز، وهنا نوجه الشكر والتقدير كذلك لشركة تنمية نفط عُمان -قطاعها الجنوبي- على دعمها المالي لهذه المبادرة.
وطوال الأسبوع الماضي، كنت منشغلاً بذلك التساؤل، وبالصدفة، تعرضت للخلفيات التي تضعني عند الإجابة عنه، حيث وجدت أنَّ القطاع الجنوبي لشركة تنمية نفط عُمان على استعداد مُسبق لتفعيل مسألة الأكشاك الراقية في صلالة، لكن تحطم هذا الاستعداد فوق صخر البيروقراطية والتقليدية، وتنازع صلاحيات المؤسسات الحكومية، وكذلك عدم الفاعلية السلطوية في بعض مفاصلها الأساسية في صلالة.
لم يُغادر مشهد استمرار النساء البائعات على الشوارع في صلالة، قياسا بالمشهد المتحول لنظيراتهن في طاقة؛ ففي الأول تقف السلطة المحلية تتفرج على مُعاناتهن، وفي الثاني العكس، رغم وجود الأموال مثلما يقول مسؤول رفيع بالشركة، وهنا يتضح أن مشكلتنا الأساسية ليست في البعد المالي، وإنما في بعض القيادات والأطر والكوادر، وكذلك في تنازع صلاحيات المؤسسات التابعة للمركزية مع نظيراتها المحلية؛ فبعض الخلفيات التي أطلعت عليها من مسؤول بلدي سابق، أن مشاريع مماثلة ممولة من شركة النفط لم ترَ النور بسبب التنازع على ملكية الأرض، هل تتبع للإسكان أم للبلدية؟
كما تعرفت من المسؤول النفطي ذاته على بعض نماذج المسؤولية الاجتماعية للشركة، وخرجت بنتيجة مفادها أنه كان بالإمكان أن يكون أكثر بكثير مما كان للمجتمع، وأن ذلك لم يكن بسبب ما ذكرته سابقًا، وهذا يفتح قضية النخب القيادية في المحافظات، ومدى صلاحيتها وأهليتها لحقبة اللامركزية، فهناك قيادات -بصورة عامة- من الزمن القديم، لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الاستحقاقات الاجتماعية والسياسية الجديدة مهما مُنحوا من أنظمة جديدة كاللامركزية، كما أنَّ هناك الحاجة لتطوير صلاحيات بعض المؤسسات التابعة للامركزية، حتى يتهيأ لها -أي اللامركزية- كل الظروف لنجاحها، والحاجة نفسها لتطوير صلاحيات المجالس البلدية لكي تكون فعَّالة، وعند الآمال السياسية المعقودة عليها في عصر اللامركزية، ونظام الضرائب والرسوم.
لذلك؛ لابد من التأكد من مدى فاعلية وأهلية القيادات الإقليمية للمحافظات، وصلاحيات مؤسساتها، وأؤمن بأن الحقب التنموية التي يكون وراءها تحولات غير مسبوقة أقرب إلى الراديكالية تستوجب فاعلين من المُستقبل، وليس من الماضي، وهي لا تتوفر بصورة مطمئنة حتى على المستوى الوطني رغم التغييرات والتبديلات التي حصلت منذ عام، فكيف بالقيادات الإقليمية التي لم تتغير منذ عدة سنوات على أقل تقدير؟ وهناك مجموعة هواجس حول تطبيقات اللامركزية ونتائجها في ضوء واقع بعض القيادات والأطر والكوادر والصلاحيات المؤسسية الحكومية والمستقلة.
ونقدم قضية أكشاك طاقة مقارنة بالوضع المتردي للبائعات على الشوارع في صلالة، كنموذج صغير للقياس عليه، فكيف بالقضايا الكبرى الملقاة على عاتق المحافظات؟ ربما قريباً سيكون لي مقال عن الاستثمار الاجتماعي في حقبة اللامركزية، وما أود توضيحه هنا أن الوضع في صلالة ليس كله يحتمل الأكشاك، وإنما يستوجب دراسة الحالات ومواقعها، والأهم حل ظاهرة النساء البائعات على الشوارع اللائي يتقطع لهن القلب، فكيف بقلب المسؤولين سواء الحكوميين أو الرسميين، ونعني بالفئة الأخيرة كل من أؤتمن على مؤسسة خيرية، ولم يحرك ساكناً في إطار صلاحيته الإنسانية.
لن أنسى البُعد السيكولوجي لبائعات طاقة، فمثلاً: من يقارن سيكولوجية أم سمير قبل الأكشاك الحديثة، وبعدها، ويتعرف على طبيعة البيئة التي كانت ومعها أربع أخريات يعلمن فيها، سيقول: "واعجباه، كيف تركتهن السلطة المحلية طوال عدة سنوات يعملن في ظروف تفتقر لأبسط الحقوق؟"، زرت يوم الجمعة الماضية أم سمير في طريقي لمرباط، وقد لمست هذه السيكولوجية المُقارنة منذ الوهلة الأولى، عقبها قلت متى سيأتي الدور على النساء في صلالة ليس شرطاً بنفس التجربة، وإنما استلهاما من روحها، ومراعاة لظروف المكان ومستقبل زمانه؟
وظاهرة النساء البائعات على الشوارع ظاهرة مختلفة عن ظاهرة البائعين التي تنشط في كل مساء والتي وراءها شباب كسروا الحواجز النفسية والمظهرية الاجتماعية تحت ضغوطات شح الوظائف، فهم يشكلون قضية منفصلة تحتاج بدورها لدراسة وبحث، ومن ثم دعمهم لدواعي التنظيم ومُراعاة ظروف المكان ومقاصده الاجتماعية والسياحية، فشكرا متجددا، وتقديرا مستداما، لكل من له مُساهمة مهما كان حجمها في صناعة الرضا والابتسامة للنساء البائعات على الشوارع في طاقة، واحتسبوا الأجر، فالأكشاك الراقية تُؤمن لهن الدخل الثابت، والعمل الشريف، والبيئة الصالحة للعمل الإنساني.