عائشة السريحية
أمسك رأسه بكلتا يديه، الظلام خنق نوره، والأفكار تقوقعت في جمجمته ثم انفجرت، وتسربت من حوله لتتشكل شخصيات تقهقه حوله بصوت عال، يكاد يجن، حاولت أنا طردها كي أساعده، لكنها حاصرته وتكومت حتى غطَّت جسده، فأطلق لساقيه العنان، وقرر الهروب، انطلق بعيدا فارا من أصوات النحيب التي حاولت اجتذابه للداخل، خشي كل تلك الأشياء التي ملأت أرجاء شقته، كان يصرخ أثناء فراره" لن أكون أسيرًا بعد اليوم".
لكن حبيبته تطارده حيثما ذهب، يشكو لها بهمس لم أستطع أن أفهمه، كنت أشاهده وحيدا يتكئ على سور الممشى يحاورها حينا ويصرخ أحيانا، ثم يرد على فضول المارين أنه يمارس الرياضة فلا شأن لهم، يشعل سيجارته التي أحرقت صدره، أكاد أسمع أزيز صدره حين يعلن سعاله المجيء.
وجدته ذات مرة يحاول صيد النحل، سألته كعادتي معه، لم تصطاد النحل ياسيدي؟
فتجاهلني كأنه لا يراني، ولا يسمع صوتي فظل سؤالي معلقا دون إجابة!
يتوقف فجأة في عمق الشارع، يضطجع على وسادة أحلام اليقظة في أرصفة الطرقات، يدندن مرات حين يمشط الحواري القديمة داسا يديه في جيبي قميصه بأغاني فيروز، ويكتب خاطرة شعرية كل مساء، كي يثبت لتلك الخيالات المُقلقة أنه يستطيع حياكة الكلمات، وأن فلسفته الخاصة هي فريدة من الطراز الأول، فقد مرَّ حينا من الدهر لا يجيد سوى كتابة قائمة المشتريات، فأرسل لها رسالة نصية، يقول فيها:
قررت أن أكتب من اليوم وصاعدا الشعر!
فردت هي عليه بخاطرة لا يحكمها وزن أو قافية وقالت:
يتماهى في صمتك لحن الثورة
ريح هوجاء ورماد منثور
خزنة أسرار وفصول رواية
أشياء تغفو في حضن النسيان
ويظل صمودك كجبال مدينة
يتلحفها إعصار، يقطنها بركان
أنت اللغز، وصراع الأزمان
بعض الناس تظنك صامتا
ويعلم قلبي أنك زلزال
الرجل الثوري بزي الراعي
وأمير يتخفى في ثوب الرهبان
أنت سؤال تستعصي إجابته
وحكيم أخرق يتلبسه الشيطان
أضداد تتجمع في كف يديك
سحر شرقي بل تعويذة جان
ضوء يرسم في رحم الظلمات
روح تحتل الجسد بلا استئذان
لقد رآها تكتب في الشرفة، استطاع أن يقرأ ما تكتب، لقد رأى بأم عينيه يراعها يخط حبره، وليس من حق أي شخص أن يكذب الفؤاد مارأى، قبل حتى أن ترسلها عبر هاتفه، متجاوزة المسافات والزمن والحواجز، رأى كلمتها تشع من شرفتها لتصل إليه، فأرسل لها بدوره وقال:
يا معبد قلبي وثنايا أوردتي
يا نبضا أزلياً أقتات عليه
لو تعلمي كم يسكنني حبك
في الأعماق وفي الأحداق وفي الوجدان
انظري،أشعري، اسمعي كل الهمسات
كل الدنيا تنشد اسمك يا عمري
وتضيء لنا الدنيا أرضا وسماء
إني دونك لا أحيا
إني من غيرك أغرق يا مرساي
وضغط على زر الإرسال وانتظر قليلاً لعلها تكتب شيئا ما، وصلت رسالتها أخيرا:
إنك يا بلسم روحي تبقى
أبديا رغم فنائي تبقى
يا رجلا عشقتك امرأة
لا تعشق في الدنيا أبدا
زلزلت دمائي فأريقت
من أجل عينيك فداء
ابتسم ثم قرر أن يعود، لقد ابتعد كثيرًا عن شقته الصغيرة، لعله حين يعود يجدها قد أعدت له العشاء، فقد أنهكه التعب، وتمكن الهذيان منه، فتساقطت خلف جدران الواقع آماله، ظل يدندن بتلك الكلمات، بلحن يصاحبه دقات قلبه المكلوم، وتحمله على بساط الشوق إيقاعات خطواته، وحين وصل أخيرا، لم يجد الأنوار مضاءة، ولا الشرفة تتصاعد منها رائحة القهوة، لقد كانت أصوات النحيب تحتسي نخب الجنون الذي سقاه رحيلها.