يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"تجولت في متحف ميتروبوليتان في نيويورك، باحثًا عن أقدم قطعة أثرية يحتويها هذا المتحف، فوجدتها في قسم المشرق العربي، وهي عبارة عن طاولة شواء ذهبية تعود لأحد ملوك اليمن القدماء". عدنان الصنوي.
-------
مما درستُ في مقررات التاريخ بأنواعه، أنَّ هناك فترات تاريخية صعب الوصول إلى حيثياتها ونتائجها فما بالك بدقائق الأحداث، ومن ضمن المُقررات الصعبة في الدراسة والبحث، مقرر تاريخ الجزيرة في العصور الإسلامية، وهو في الواقع مقرر يركز على تاريخ اليمن بالذات.
درستُ هذا المقرر على يد الأستاذ الدكتور عبدالمحسن المدعج المتخصص فيه، وعندما نتحدث عن تاريخ اليمن سنتذكر لأول وهلة قصة ملكة سبأ مع نبي الله سليمان عليه السلام، والتي ورد ذكرها في سورة النمل، وكذلك قصة سيف بن ذي يزن. فمن اليمن انطلقت إحدى أشرس حركات الردة بقيادة الأسود العنسي، وأحداث كثيرة يزخر بها هذا التاريخ المليء بالأحداث، وكنت أستغرب كيف استطاع المؤرخون الأوائل سبر أغوار هذا التاريخ الذي يعتبر كمنجم ثمين وقاعدة لكثير من الأحداث التاريخية التي انطلقت بدايتها من جنوب الجزيرة العربية.
الباحث والمؤرخ الكويتي عبدالمحسن مدعج المدعج، تخصص في التاريخ الإسلامي بتخصص، نادرًا ما وطأت أقدام الباحثين أراضيه وبقاعه، وهو تاريخ جنوب الجزيرة العربية في العصور الإسلامية، ونال على هذا التخصص الدقيق درجة الدكتوراه من جامعة دورهام بالمملكة المتحدة في عام 1983. ويعد المدعج أحد أقدم أساتذة التاريخ الإسلامي بجامعة الكويت، وقد تبوأ عدة مناصب أكاديمية منها رئاسة قسم التاريخ، والعميد المساعد للشؤون العلمية بكلية الآداب، وكذلك ترأس تحرير مجلة حوليات كلية الآداب، ومازال أستاذًا مشاركًا بقسم التاريخ والآثار، وله كتاب نادر بعنوان: "اليمن في التاريخ الإسلامي الباكر".
كثيرٌ من الناس لا يعرفون سوى المدعج الناشط السياسي والنائب والوزير الأسبق، لكن قليلًا من يعرف أنه أساسًا أستاذ للتاريخ الإسلامي وما زال في الجامعة، ولعل ذكرنا له في هذا المقال بخصوص الدخول لفلسفته التاريخية وطريقته البحثية في التنقيب عن التاريخ، خصوصًا، وتخصصه الصعب؛ حيث تاريخ جنوب الجزيرة ومآلاته وأحداثه ونوازعه ومجرياته وتكتلات المكونات البشرية في تلك البقع غير المُغطاة تاريخيًا في غالب الأحيان؛ لصعوبة البحث بها والتنقيب عن مؤهلاتها المتنوعة، وحوادثها الغامضة وفك عقد أسرارها، والتمكن من رصد مساراتها بدقة وإتقان ودخول مناطقها المزدحمة بالتيه والغموض والضياع. وإن قلت إنها مناطق "الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود" فكأني أصبت المقال، لذلك من الصعب أن يفكر أي باحث مجرد التفكير في أخذ الزمام بهذا التخصص المتعب ذهنيًا وفكريًا وحتى ماديًا، فحسبما علمت أن المدعج سافر لليمن وأقام لعدة شهور حتى ينجز بحثه التاريخي؛ حيث تجول في مناطقها بنفسه، وزار صنعاء وذمار وتعز ومأرب وحضرموت وعددا من المدن التي لها ذكرٌ في التاريخ، وتلمس بنفسه مُعطيات هذه البلاد وتضاريسها ومناخها وصادق أهلها وتعرف على اللهجات المختلفة، وطريقة عيش الحياة عند القبائل اليمنية، مما أعطاه فكرة واسعة وعلم معلومات معروفة وغير معروفة، ومنها قدم بحثه القيم الذي نال على إثره درجة الدكتوراه، ومما لايعرف الكثير أن مدة مناقشة الدكتوراه تعدت المدة المقررة وأخذت وقتًا تعدى الأربع ساعات، نتيجة النقاش الفكري المكثف بين الباحث وهيئة المناقشة بخصوص هذا الموضوع النادر، ومما أوصت به الهيئة هو أهمية طباعة البحث لحاجة الباحثين له مستقبلًا.
عندما تتحدث عن تاريخ جنوب الجزيرة وتتداول أسماء لقبائل أصيلة تغنى ومازال التاريخ بها، كالحديث عن حمير ومذحج وقتبان وسبأ والدولة الصليحية في صنعاء، ودولٌ قامت ثم بادت، منها ومن الدول التي حكمت في اليمن إبان الحقب الإسلامية والدولة الرسولية في تعز، والدولة المتوكلية في صنعاء وتعز، والدولة الكثيرية في سيئون (حضرموت)، ودولة بني نجاح ودولة بني زياد، لك أن تتصور كيف يستطيع الباحث الدخول وسط هذه المتاهات والتنقيب عن المعلومات ومظاهرها ومعارضها والسير في مناطق لم تؤرخ من قبل، نادرًا ما تم تأريخ هذه البلاد في العصر الحديث، فما بالك بالعصور الإسلامية الباكرة؟!
في هذا المجال وبهذه المناسبة أتمنى من قسم التاريخ والآثار بجامعة الكويت، الاهتمام بمثل هذه المقررات التاريخية الصعبة الدراسة والبحث، وتقديم الدعم لعمل دراسات تخص هذه الفترات التاريخية المستحقة للأهتمام، والتي يبتعد عنها الكثير من البحاثة لصعوبة البحث بها، سيما والحالة الحالية لليمن لا تساعد على مناخ آمن للبحث والتحري التاريخي، وبوجود باحثين كالمدعج وغيره بإمكان عمل زخم أكبر، وإعطاء دفعة أكبر كعمل ندوات ومؤتمرات و تشجيع طلبة الدراسات العليا على التنقيب والبحث الأكاديمي بهذا التخصص الدقيق الذي له أثره على تاريخ الجزيرة العربية.