علي الرئيسي
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
"العقل الجمعي أقوى من حُرية الفرد، ويتنافى معها؛ بل قد يتجاوزها أو ينفيها في بعض الحالات، مما يجعل سلوك الناس في الحياة جبريًا" عالم الاجتماع إِميل دوركهايم.
يقول د. عامر صالح إنَّ العقل الجمعي يتشكل بفعل التأثير المزمن لمنظومة من العوامل التربوية والثقافية والاجتماعية، من عادات وتقاليد وايمان ديني وغير ديني، وتأثير مفاهيم مُعينة في حقب تاريخية مختلفة، ويشمل أيضاً العوامل الخاصة من إيمان بمختلف الأعراف والعادات والتفسيرات لمختلف الظواهر المحيطة الطبيعية والاجتماعية التي تنشأ عليها مجموعة اجتماعية، سواء من إيمان بسحر وشعوذة وتأثير أمراض كارثية تحل بمجموعات اجتماعية، وعوامل الفقر والفاقة الاقتصادية والاجتماعية.
وقد اهتم الباحثون في علم الاجتماع، وكذلك الباحثون في علم النفس الاجتماعي بشكل خاص بهذه الظاهرة. وبدراسة محددات السلوك الفردي داخل الجماعة والكشف عن المراجع التي تقوم بهذه الوظائف بشكل مضمر؛ فالتنشئة الاجتماعية عامل مهم في تشكيل العقل الجمعي ولها تأثير مهم في تشكيل الهوية الثقافية للفرد. والتنشئة الاجتماعية هي تلك العملية التي يمارسها الكبار على الصغار، بعدها يصير الأفراد يتحكمون في "الهابيتوس" (أي السجية) حسب مفهوم بيير بردو.
ويقدم العقل الجمعي للفرد خدمات مُهمة، حيث يعمل على اندماج الفرد، اجتماعيًا، وأخلاقيًا ودينيًا وهي أمور مهمة جدا. ولكن في المجتمعات التقليدية والتي يكون فيها منسوب الوعي المعرفي والعلمي محدودًا وعندما يسحب معه أشكالا ماضوية يكون هذا الوعي الجمعي أداة للتخلف وضد التطور.
ولا يعني إميل دوركهايم أن الحياة ثابتة أو مستقرة على ما ورثته من تراكم فردي وجمعي؛ بل إن العقل الجمعي والفردي مفهومان مرنان متأثران بالعوامل التاريخية التي انتجته. وبالتالي فهما ليس مفهومين مطلقين أبدًا؛ فأوروبا القرون الوسطى التي شكلت عقلًا جمعيًا دينيًا متطرفًا في مسحته العامة، ليست أوروبا اليوم التي تنظر إلى العالم الطبيعي والاجتماعي نظرة علمية وبكونه سلسة من المقدمات والنتائج قابلة للضبط والقياس والتحكم بدون انقطاع وبالتالي تحسن ظروف العيش على مستوى البيئتين الطبيعية والاجتماعية.
يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه الشهير "سيكولوجيا الجماهير" إن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير؛ فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية. ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بسلبية، "... ويمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الدينية، فإنَّ الاختلاف معدوم غالبًا أو قل ضعيفًا". وهذه حالة سائدة ومحيّرة تعاني منها كثير من المجتمعات التقليدية؛ كالمجتمعات العربية والإسلامية والتي تعاني من غياب العقل الناقد وتسيطر عليها ثقافة القطيع.
إننا نواجه في حياتنا يوميًا أمثلة حية، فهنا لو خضت أي حوار (وسائل التواصل الاجتماعي خير مثال)، ستجد بكل بساطة أن محاوريك سيستعينون بعدتهم التراثية وبثقافتهم الجمعية وآرائهم الشعبوية لتفسير شتى المسائل العلمية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والفلسفية، رغم أن المسائل المطروحة لا تمت لذلك التراث بصلة. كما إننا نواجه يوميًا عملية إلحاق قصرية بالتفكير ضمن عقلية القطيع وعدم الاعتراف بتفكير فردي وناقد مختلف، وكل من لا يُفكر بتلك الطريقة فهو مخالف للأمة والجماعة ومنبوذ منها!! علمًا بأنَّ كل التراث العقلاني الإنساني هو نتاج فكر فردي ناقد ومُخالف لفكر القطيع!
يقول المفكر اللبناني علي حرب في معرض رثائه للدكتور حسن حنفي: "أتوقفُ عند رأس العوائق كما يتمثل في التمركز أو التمترس حول الهوية الدينية. ولذا ترانا نعرف بهويتنا على أساس الدين في عصر حلَّت فيه الديمقراطية محل البيعة، ونموذج المواطن محل المؤمن، كما حلت القوانين الوضعية محل الشرائع الدينية، وهكذا نريد أن نكون متدينين في زمن لم يعد زمن الأديان".
وما حصل من احتراب وتمزق طائفي في الكثير من الدول العربية، هو في جانب منه الاعتماد على المخزون التاريخي السلبي من العقل الجمعي، وقد استثمرت السلطات الدينية أو الطائفية أو القبلية أو السياسية، هذا المكوِّن الرجعي في العقل الجمعي؛ حيث تسود عقلية القطيع، وحيث يتم سحق الفردانية والتفكير الفردي الناقد، مما أفرز مجتمعات متمزقة، ومأزومة، ومتخلفة اقتصاديًا واجتماعيًا.