لن تشيخ أبدًا!

 

عائشة السريحية

هل تستطيع عزيزي القارئ أن تتذكر تلك اللحظة التي افتتحت بها عمرك الزمني، فبكيت وسط ضحكات الجميع؟ هل تستطيع تذكر كم بكيت حزنا، وألما؟ هل تستطيع إحصاء مرات الفرح والغضب، الحماس والتوتر، المرارة واليأس؟

لحظات كثيرة جدا عشتها ولن تستطيع تذكرها كلها، لكنها أخذت منك وقتا وجهدا نفسيا وبدنيا، هذه اللحظات التراكمية هي محكومة بالزمن الذي قضيته منذ ولادتك إلى هذه اللحظة ويطلق عليها العمر الزمني، ولك جانب آخر يحسب به عمرك، يسمى العمر البيولوجي.

عزيزي القارئ.. لا أعرف كم هو عمرك الآن، لكن أريد أن أطلعك على هذه السطور لتقرأ ما يجول بخاطري. حين تبلغ العشرين، ترى الناجحين من النَّاس كنماذج تتخير أحدها لتعلق عليه أمنياتك المستقبلية، وتقول أتمنى أن أصبح كفلان، ستكون جل أمنياتك أن تحظى بحياة أجمل وتلتقي يومًا بشريك حياة مثالي، وتنهي دراستك، وتحصل على وظيفة مناسبة.

وحين تبلغ الثلاثين ستكون كأسك قد امتلأت لمنتصفها تقريبًا، ظروفك المالية حينها هي الأهم. وبعد عشر سنوات ستمتلئ ثلاثة أرباعها، ستبدو لك الأشياء مُختلفة، ستنظر للحياة بنظرة أعمق، ويستمر وضع الثبات مع التقدم الزمني إلى أن تصل لفيضان كأسك الممتلئ.

هناك قلة من البشر الذين لا يولون للعمر أهمية، فأعمارهم الزمنية لا تشكل فارقاً كبيرًا، فالحياة فيها متسع لبناء الطموحات والأحلام، وحتى تغيير المسلمات القديمة وتبديلها، بعض الأنبياء حين نزل الوحي عليهم كانوا قد وصلوا الأربعين عامًا، ربما هو سن النضوج الحقيقي والبدء في التغيير، ربما الخبرات المكتسبة من معترك الحياة هو المحرك والوقود الحقيقي لفهم أوسع وإدراك أعم وأشمل.

وهناك من يخشى التقدم في العمر، فيخلق صراعا مع الزمن وعقارب الوقت، وينسى أننا نتقدم في العمر لكن أرواحنا لا تموت بل تنضج، نجد مثلا رجلا ستينيا يبحث عن فتاة ليتزوجها، ونجد امرأة في ذات العمر تتصرف بصبيانية، وهذا ليس عيباً أخلاقياً، لكنه رفض داخلي لكونهم تقدموا في العمر، فيهرعون لصبغ الشيب ولعيادات التجميل للشد والحقن، يتحدثون عن أهمية الصحة لكن السبب الحقيقي هو الخوف الحقيقي من التقدم في العمر، يتجنبون التحديق كثيرا في المرآة التي تكشف لهم عمق التجاعيد المحفورة على جوانب العينيين، أو سقوط الخدين، والغريب أن كثيرًا من النَّاس حين يتقدم بهم العمر يصبحون أكثر حبا وتشبثا بالماديات؛ بل الأكثر حرصًا على جمع الأموال، وفي الجهة المُقابلة سنجد البعض ممن يستسلم بخضوع مطلق للتقدم الزمني، فمنذ أن يرى منابت الشيب في رأسه حتى يترك كل ما كان يحلم به، ويتقبل فكرة أنه أصبح عجوزا، فيلزم روتينا معينًا لا يحيد عنه، ويسلم الأمل والطموح بسلاسة لغيره، ويركن لظل الجدار الممتد على ما تبقى له في الحياة.

التقدم في العمر لا يعني الهوس بالشباب الدائم، ولا الاستسلام المطلق، التقدم في العمر لا يغير إحساسك الروحي، ولا يبدل شخصيتك، ولا تؤثر التجاعيد العميقة في عدم تقبل الناس لك، هي مرحلة جديدة تثبت أنك محظوظ لأنك وصلت إليها ومازلت قادرا على الإحساس بالحياة، هي نواة للوقوف مطولا مع النفس والتفكير في أمور لم يسعك أن تفكر فيها من قبل، فأنت قد امتلكت من الخبرات ما يكفي لتصنف نفسك معلمًا، تبث خبراتك المكتسبة لغيرك، وكي تحافظ على عمرك البيولوجي أكثر، عليك أن تبتعد عن مسببات تأثره سلبا، فالعمر الزمني يختلف تمامًا عن العمر البيولوجي؛ حيث يعد الأول هو مقدار الفترة الزمنية التي عشتها منذ ولادتك وحتى لحظة حسابك له. أما الثاني فهو يعتمد على بنية جسدك وملامحك ومظهرك، فقد يكون مثلًا عمرك الزمني خمسين عامًا لكن عمرك البيولوجي لا يتعدى الثلاثين، ولكي تحافظ على عمرك البيولوجي ويظل العمر الزمني مجرد رقم يكتب على ورق، عليك اتباع عادات غذائية سليمة، وممارسة الرياضة بشكل مُنتظم.

الأهم من هذا كله- بل أساس الحفاظ على منحك سنًا أصغر في العمر البيولوجي- الصحة النفسية، وسأعطيك من خلال تجربتي الشخصية بعض النصائح التي ربما ستستفيد منها؛ أولًا: الضحك؛ فالضحك وسيلة تمنحك شعورًا بالارتياح الداخلي، فاختر صديقًا لك أو مجموعة ظريفة تضفي الابتسامة والفرح حين تقضي معهم وقتك بين حين لآخر. ثانيًا: عدم أخذ بعض الأمور التي لن تقلب حياتك رأسًا على عقب بجدية مبالغ فيها، فحين تواجه مشكلة في يوم ما فهذا طبيعي، قد يكون خلافًا، أو ضائقة مالية، أو مرضًا عارضًا، عليك حينها أن تفكِّر، هل ستؤثر هذه المشكلة على حياتي بحيث تعرقلها تمامًا ولا أستطيع التحرك؟ إن كانت الإجابة لا، ابتسم واتركها، فأنت بعد فترة من الزمن ستتعامل معها كحدث في مذكراتك. ثالثًا: النوم بشكل كافٍ سر أيضًا من أسرار إطالة العمر البيولوجي؛ فمن خلاله يأخذ جسدك الوقت الكافي لإرخاء العضلات وترميم الجسد. رابعًا: تصفية الجسد من السموم، إيقاف الوجبات المليئة بالزيوت واستبدالها بالدهون الطبيعية إن كنت من محبي الدهون، ووجبات المطاعم وأكل الخبز المصنوع من كامل الحبوب، مع الاستغناء عن السكر بكل أشكاله حتى وإن قيل طبيعيًا واستبدال الملح العادي المكرر بملح البحر أو ملح الهاملايا الموجود في الأسواق. خامسًا: الاهتمام بالروح وغذائها؛ أي القرب الحقيقي من الله، ولا أعني كثرة العبادات الجسدية؛ بل الاقتراب الحقيقي في الدعاء والمُناجاة والتوكل، فلا ندم على شيء ذهب، ولا فرح شديد بمكتسب، ولا تعلق مَرَضي بماديات.

مجموع هذه الأشياء ستجعلك تبدو شابًا حتى وإن كنت في السبعين أو الثمانين، ستمنحك هالةً لا يستطيع الآخرون تجاهلها، ستهبُك ما تفتقده من الطمأنينة والأمان؛ لأن الحزن يأكلك كما تأكل النار الهشيم، والحسد يطحنك كما تطحن الرحى الشعير، والغيرة من الآخرين ستدمرك كما يدمر السيل العرمرم جنة خضراء مثمرة، وحُب الدنيا سيسجنك كما يسجن قفص ذهبي عصفورًا طليقًا، وما كان لك فهو لك، وما لم يكن من نصيبك فلم ولن يكون لك، دعه واذهب لغيره، ابتسم وكن كطيفٍ عابرٍ على قلوب البشر، غضبُك لا تعطيه امتدادًا لفترة صلاحيته، وانسْ فأنت مهما غضبت على شيء وقع لن تستطيع إعادته، انظر دائمًا للأفق، وطبب جروح تعثرك وأنت سائر بلا توقف، لا تقارن نفسك بغيرك، فلكل شخص عثراته ومشاكله التي قد لا تراها من زاويتك، استمتع بأبسط الأشياء واقض فيها وقتًا؛ فالسعادة قد تكون بضرب إيقاعات على طاولة؛ لذلك هي لا تعني أن تكون "ربح اليانصيب"، استثمر عمرك البيولوجي وعش شابًا مرحًا لآخر محطة ستصلها، ثم تترك حقيبتك مليئة بالذكريات الجميلة؛ ليحملها غيرك من بعدك.