فيلم "ملكة الصحراء"

 

عبدالله الفارسي

قبل أسابيع استمتعت بمشاهدة فيلم يحمل عنوان (Queen of Desert) أو "ملكة الصحراء"، الفيلم قديم طبعًا ولكن كما يقولون كل قديم جميل.

كان الفيلم جميلاً وقد أمتعني لأقصى درجة ربما لأنني شخص حالم بالصحراء مُغرم بالمُغامرات مُتيم بالمواقف النادرة وباحث عن القيم المفقودة.

الفيلم يحكي قصة عجيبة لأميرة بريطانية شابة جميلة وفاتنة تقرر فجأة الذهاب لاكتشاف جزيرة العرب.. وبرغم رفض أسرتها ومعارضة القصر لقرارها وعدم موافقتهم على سفرها إلا أنها أصرت على القيام بمُغامرتها وتحقيق شغفها.

سافرت الأميرة الشابة وعاشت تجربة من أجمل وأروع تجارب الحياة في صحراء العرب الممتلئة بالأسرار المكتظة بالغرائب والمُعبأة بالعجائب، وتنقلت الأميرة الشقراء بين صحراء الأردن وبادية سوريا والعراق ونجد والحجاز.

ويكشف لك الفيلم قوة الشخصية الإنجليزية ذكاءها ودهاءها وحكمتها في التعامل مع كل موقف، وهذه حقيقة يعترف بها العالم بأكمله؛ حيث إنَّ الإنجليز دهاة العالم ولصوصه العباقرة، وحتى اللحظة ما زالت بريطانيا تمتص ثروات مُستعمراتها وترشف حليب أبقارها القديمة السمينة دون وجود جندي واحد لها في هذه المُستعمرات!

بريطانيا التي استطاعت أن تستهبل الشعوب الحمقاء وتمتص ثرواتها بكل هدوء وذكاء، أليست هذه عبقرية فذة؟!

استطاعت المُمثلة الكبيرة نيكول كيدمان أن تقوم بدور الأميرة فأجادت الدور وتقمصت الشخصية بشكل يفوق الخيال، وهنا كما يقول كبار المخرجين ونقاد السينما في العالم بأن التمثيل البارع هو موهبة وليس اكتسابا أو مجرد تمثيل أو تطبيق حرفي للنص. المواهب الحقيقية غالبًا تكون باهرة في الأداء مثيرة في العطاء. لقد أثبتت كيدمان أنها ليست مجرد ممثلة موهوبة فقط؛ بل هي ممثلة مبدعة بكل معنى الكلمة. هذا الفيلم جعلني أنسى كل مساوئ هذه الممثلة وإخفاقاتها السابقة واعتبرها الممثلة الأولى على الإطلاق.

استطاعت الأميرة الشابة ذات الثلاثين ربيعاً أن تجتاز الصحراء العربية بكل مخاطرها وعقاربها ولصوصها وعفاريتها وشساعتها ومجاهلها وثعابينها وعقاربها.

تعلمت الأميرة الشابة اللغة العربية بسرعة مذهلة من باب (من تعلم لغة قوم أمن شرهم)، وتعلمت اللغة التركية لأنها لغة الحكم والسيطرة إبان تلك الحقبة الزمنية. كذلك تعلمت علم الآثار وأسس التنقيب وعاشت في أعماق نفسيات بدو الصحراء وحللت شخصياتهم واستوعبت عالم الصحراء الغامض العميق ومخلوقاته وسحره ومفاجآته.

تعيش ساعتين مع الفيلم وهو يتنقل بك داخل الصحراء العربية وعلى أطرافها خلال حقبة زمنية نادرة وهي الفترة الواقعة بين العام 1899 و1914.

لم تخفِ الأميرة الفاتنة إعجابها الشديد بأخلاق عرب الصحراء وشهامتهم النادرة، كما إنها لم تنكر انبهارها بدهائهم وشجاعاتهم ونخوتهم العالية.

يكشف الفيلم عبقرية الأميرة الشابة وقوة إرادتها وحزمها وشجاعتها وهدوئها وانضباطها العجيب في مواجهة أخطار الصحراء وصعوبة المواقف وهي الشابة الصغيرة والجميلة.

كما يوصل الفيلم للمشاهد حقيقة الذكاء العميق والفطري للأميرة الشابة والمتوارث جينياً عن السلالة الإنجليزية الخالصة في قدرتها على التحليل العميق للصحراء والتكيف السريع مع ظروفها.. وكيفية تعاملها العبقري مع الرمال والرياح واللصوص وقطاع الطرق ومدى حبها والتصاقها بـ"الجمل العربي" ذلك الحيوان الذي يشكل أهم مخلوق في الصحراء وضرورة من ضرورات البقاء فيها.

ولا تنسى ملكة الصحراء العذبة الرقيقة في اعترافاتها إطراء أخلاق مرافقها العربي البدوي وشهامته ودماثة خلقه وأمانته وشجاعته وعفته وتعريض نفسه للخطر في أكثر من موقف لحمايتها وإنقاذ حياتها.

الفيلم من وجهة نظري الشخصية رائع بكل معنى الكلمة بغض النظر عن أهدافه السياسية وبغض النظر عن اتهام الكثير من النقاد والمؤرخين الأميرة جيروود بيل، بأنها جاسوسة ومستشرقة بريطانية مدربة ومبتعثة في مهمة استخباراتية وأنها زودت المستعمر البريطاني بمعلومات ثمينة عن بلاد العرب والصحراء العربية، وأنها ساهمت في تسهيل عملية الاحتلال البريطاني لبعض بلدان الشرق الأوسط وقدمت له المعلومات الذهبية والتي ساعدته في مهمته الاستعمارية الشريرة، بغض النظر عن كل تلك التحليلات والاتهامات فكل الغربيين من وجهة نظري بمختلف أطيافهم وفي كل زمان ومكان هم جواسيس لبلدانهم يخدمون دولهم بطريقة أو بأخرى لأنهم يغرسون فيهم تلك الوطنية العميقة منذ نعومة أظفارهم.

لذلك من وجهة نظري أعتبر "ملكة الصحراء" ملكة حقيقية تستحق تاجًا ماسيًا يتناسب وشخصيتها القوية وعبقريتها الفذة. إنها فعلاً شخصية تستحق التأمل والإعجاب والانبهار.

جيرتروود بيل، ملكة الصحراء، اسم لن تنساه الصحراء العربية من خلال هذا الفيلم الذي عانق النجوم درجة الإشعاع والإبداع، وأيضًا من خلال مذكراتها التي كتبتها وأصدرتها فور عودتها من هذه الرحلة الخيالية في الصحراء العربية.

"مذكرات جيرتروود بيل" متوفرة باللغتين الإنجليزية والعربية لمن يعشق قراءة الليالي المقمرة المُعانقة لرمال الصحراء العربية والمتلهف لسماع قصص النخوة والشجاعة والشهامة العربية لبدو الصحراء، لكن مشاهدة الفيلم لها متعة أخرى تتفوق على متعة القراءة فلا تفوتوا فرصة مشاهدته والأجمل والأروع هو الجمع بين الحُسنيين؛ مشاهدة الفيلم أولاً، وقراءة المذكرات لاحقًا.