فوبيا

 

عائشة السريحية

انزوى بعيدًا، قطرات العرق تتسابق على وجهه، التوتر يأكل كل ما حوله، أكاد أشعر بنبضات قلبه تخترق جدران المسافات، اقتربت منه، لعلي أحظى بإجابة تلهمني للمساعدة، ولم أشعر سوى بانكماش جسدي واتساع الكون حولي، تحولت فجأة لطيف خفي، وعبرت جسده بكل بساطة، شعرت بتلك الطاقة التي اجتذبتني نحوها، يا للهول، حوصرت بذرات الهلع، ناديت بصوت مرتفع كما لم أفعل من قبل: أخرجوني أخرجوني.

لا يسمع صراخي أحد، ولا زلت أنكمش أكثر فأكثر، وممرات الأوردة والشعيرات تكبر وتتسع، إلى أن أصبحت مسالك أعبرها مسترشدا بتلك الومضات التي تظهر من بعيد، وصلت أخيراً إلى غرفة مليئة بفجوات الذكريات، عرفت أن اسمه مسعود، كان ذلك واضحًا في إحدى فجوات ذاكرته، وعرفت كذلك أني في مخه، وبالأخص في مخزن ذكرياته، لم يكن لي مجال للتراجع، إن فضولي لمعرفة سبب تعبه أدى بي إلى هذه المعضلة، ليت الفضول ينحر حين يُولد.

من مسعود يا ترى؟!

كان السؤال مُلحًّا، يحتاج لإجابة عاجلة، لعلي إن عرفتها عدت لكينونتي! تفحصت ذكرياته، هناك فجوة كبيرة مظلمة، يصدر منها ضجيج عالٍ، واهتزازات تتسبب في تسارع نبضات قلبي، كأن زلزالا يرج الأرض تحت أقدامي، جسده أحيط بسياج هلع تام، هاهو فضولي يعود مجددا، أرغب في معرفة سبب تلك الفجوة، فقررت الولوج، سحبتني نحو أعماق الماضي، وجدته طفلا صغيرا، يجلس ببراءة أمام جدته تحكي له عن الجن والأرواح التي تختطف البشر، ثم توهم ذويهم أنهم ماتوا، وبعد فترة يرون أطيافهم مجددا في أماكن متفرقة، اختطفني وميض آخر، ها هو مسعود يلعب مع الصغار لعبة الغميضة يأخذه صبي أكبر منه ويضعه في خزان ماء فارغ ثم يغلقه، ويكملون اللعب، يستنجد مسعود مرتعبًا، الظلام في خزان المياه، نبت له نابان وأضاءت عتمته عينان حمراوتان، ثم يأتي الصبية ويخرجونه، وميض مجددا! يرمي بي في لحظة يوبخ فيها مسعود، كانت والدته تمسك سكينا، وتقترب منه وتهدده بالذبح إن سرق شيئاً آخر من الدكان المجاور مازالت العلكة المسروقة ملقاة على الأرض، يعود الوميض، ويعود مسعود لعمر الخمس سنوات، يرفض النهوض من النوم ليؤدي صلاة الفجر مع جده، يهدده جده بالثعبان الأقرع الذي سيعتصر أضلاعه.

وميض وميض وميض، كم أرهقتني هذه الومضات، هذه المرة مسعود في المدرسة، عامر يتنمر عليه ويضربه، ويرمي كمته على الأرض، الأطفال يسخرون منه، ضحكاتهم أصمَّت أذني. مازلت في المدرسة، لكنه يوم آخر، يجبرونه على الإلقاء في الإذاعة المدرسية، يتأتي أمام المايكروفون، يسخر منه المعلم ويوبخه.

لم أعد أحتمل، أتعبني الوميض كثيرًا، فهو حين يجتذبني أصاب بالدوار.

 هذه المرة، كان مسعود قد أصبح يافعًا، مسافراً لوحده، إطارات السيارات تعطلت، المكان صحراء، الأصوات الليلية لصراصير الليل وانقطاع الكهرباء في الطريق الجانبي، جعلتني اسمع معه أصوات للجن والأشباح، اختنق، ظنا أنه يموت! دفن رأسه بذراعيه، شرع تنفسه بالتسارع، وقلبه مع كل نفس يزيد نبضة، أطرافه ترجف، وكذلك أنا.

يا إلهي أخيرًا أنا في حفل العشاء الذي تقيمه الشركة، ها هو مسعود يتجه نحو الضيوف يحمل الكاميرا، إنِّه مصور الحفل، يتقدم خطوة نحو الجمع يلتقط صورا مختلفة، يحاول أن يتناول كوب عصير من صحن النادل، يقع الكوب ويقع مسعود، وتنكسر عدسة الكاميرا، يظن أنَّ الجميع منتبهون لما حدث، يسخرون منه، يهرب سريعًا نحو زاوية خفيفة الإضاءة، يدفن رأسه بين ذراعيه، هآنذا قادم.

- "مسعود، مسعود"!

كان الوميض قوياً جدًا لدرجة أنه لفظني من جسده، ووقعت أمامه، أمسكت كتفي مسعود، أتنفس بعمق، اجتذبت كيسا من على طاولات الطعام، التي حفظت بها بعض المناديل، ووضعتها على فمي وبدأت بالتنفس فيها، زاد توتره، وقع مغشيا عليه.

بعد دقائق سيارة الإسعاف تتوقف بالقرب من المكان، ينقل للمركز الصحي، لا أدري لم جلست معه لا أستطيع مفارقته، أنتظر عودته الطبيعية للحياة، لكن مسعود تأخر كثيرًا في العودة، ومنذ ذلك اليوم وأنا عالق به كظله، لا أستطيع الخروج فكلما حاولت أن أهرب، اجتذبني ذلك الوميض وأعاد لي المشهد من جديد.