علي بن سالم كفيتان
في هذا المقال لن أخوض في منحنيات السياسة البريطانية الدقيقة لأمرين؛ الأول: عدم اطلاعي الكافي لكي أحكم على تلك السياسة التي حكمت العالم لفترات طويلة، والثاني لرغبتي أن يكون مقالي بعيدًا عن نظرية المؤامرة التي أفقدتنا النظر إلى الأشياء من عدة زوايا؛ فالعنوان ينحصر في صفة المملكة المتحدة كحليف تقليدي، وربما المُفضَّل لكثير من دول العالم، بعد أن أخفقت دول أخرى في بناء علاقة متزنة مع شعوب العالم.
لذلك رفضت بريطانيا العظمى الذوبان في الاتحاد الأوروبي رغم المُغريات والحوافز الاقتصادية التي قدمتها أوروبا للجزيرة التي لطالما شغلت الدنيا بقدرتها على المناورة في أصعب الظروف، مستندة على أرشيف سياسي واجتماعي واقتصادي جمعته لقرون خلت، من مختلف أصقاع الدنيا، لذلك نجد تحركاتها في الملفات المختلفة متأنية، ولا تميل لاتخاذ القرارات العاطفية، وعندما تنسحب تترك البديل الذي يؤمن لها العودة، متى ما أصبحت مستعدة لذلك، وهو ما يحدث اليوم.
جميع الكيانات التي دعمتها بريطانيا أو أنشأتها، صمدت وحافظت على بقائها ونالت شعوبها قسطًا من التنمية والتطوير، ولا يعني هذا أن الوضع كان مثاليًا، لكنه كان مقبولًا، مقارنة بما قدمته دول أخرى، على سبيل المثال فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين؛ فتايوان مثلًا كانت أنموذجًا للحكم الديموقراطي في قلب التنين الصيني، ورغم عودتها للوطن الأم، إلا أن شعبها يفضل العيش على النمط الذي وضعته المملكة المتحدة، والتي منحتهم من خلاله قسطًا أكبر من الحرية والعدالة والتنمية، رغم أنهم ينتمون للأمة الصينية التي تبهر العالم اليوم بتنافسها على صدارة الهرم الاقتصادي العالمي.
هناك تجارب كثيرة يمكن سردها عن الوثوق بالحليف البريطاني، ومنها دول الكومنولث التي ما زالت تحترم بريطانيا وترتبط بها اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، ونجدها في المجمل دولًا قوية، وتصنّف ضمن الدول الأقوى اقتصاديًا وتعليميًا وصحيًا في العالم، مثل كندا وأستراليا ونيوزلندا وغيرها؛ لذلك بريطانيا عندما دخلت الاتحاد الأوروبي لم تكن دولة واحدة؛ بل كانت تحت مظلتها مجموعة من الدول، وكانت ترى في ذلك نقطة قوة يجعل منها الدولة ذات الكلمة الأولى في هذا الاتحاد، وهذا ما لم يقبله الشركاء على ما يبدو. لذلك لم تتردد الأمة الإنجليزية من التصويت بـ"لا" للاتحاد الأوروبي؛ فمصالحهم مع الدول الحليفة توازي الاتحاد الأوروبي وربما أفضل، لذلك خروجها كان سلسًا ولم تصحبه عواصف اقتصادية أو سياسية داخل بريطانيا؛ بل ظل المُفاوض الإنجليزي عنيدا كعادته، واستطاع انتزاع الكثير من الميزات أثناء مفاوضات الخروج، وفقد الاتحاد الأوروبي دولة تمتلك زمام القوة الناعمة في العالم، فبريطانيا اليوم لا تخوض حروبًا في أي جزء من العالم، لكن مصالحها مصانة، وهيبتها محفوظة، وهذا هو سر الخلطة التي يفتقدها الآخرون.
بريطانيا هي التي غرست الكيان الصهيوني في فلسطين واستطاعت أن توفر له سبل البقاء حتى اليوم، فبينما هي انسحبت من الشرق الأوسط، عهدت بهذا الكيان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإن النظرة البريطانية لفلسطين لم تتغير، فهي تعترف بوجود دولة فلسطينية ولا تمضي قدمًا في تأجيج الأزمة بين العرب والإسرائيليين. وفي الوقت الذي هرول فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وصنف منظمة التحرير الفلسطينية- التي وقع رئيسها (الراحل ياسر عرفات) اتفاق السلام مع رئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين في حديقة البيت الأبيض- منظمةً إرهابيةً، وأغلق مكاتب المنظمة في واشنطن على طريقة الكاوبوي (راعي البقر) الأمريكي، ظل حديث لندن هادئًا وظلت مكاتب المنظمة تعمل في العاصمة البريطانية، وكل القنوات مفتوحة على مصراعيها بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبين مختلف الفرق الفلسطينية المتناحرة على السلطة والمساعدات، بعيدًا عن قضية التحرير والاستقلال، ولا يعني هذا أننا نتفق مع سياسة بريطانيا تجاه القضية الفلسطينية، لكنه تحليل بعيد عن نظرية المؤامرة.
كل الدول التي دخلتها الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، انسحبت منها مرغمة وتركتها لسياسة "الفوضى الخلاقة" التي روّجت لها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس، ولنا أن ننظر إلى أفغانستان والعراق، وفيتنام من قبلهما، في حين أمَّنت المملكة المتحدة انسحابها بشكل منظم وأسست لوجود البديل، وفي الغالب سارت تلك الدول على نهج التنمية والتطوير، ولم يكن التدخل الإنجليزي فجًّا في السياسات الداخلية لتلك الدول؛ بل اكتفت بدورها كمراقبٍ لصيقٍ وحليفٍ وقت الأزمات الصعبة، وشكّلت الاتفاقيات الأمنية طويلة الأمد الوسيلة المفضلة لبريطانيا؛ لكي تؤمِّن مصالحها، اتفق معها من اتفق واختلف معها من اختلف، وفي النهاية كما يقولون "السياسة فن الممكن".