الطائيون القضاة الشعراء (6)

الشيخ حمد الطائيّ.. «سليل الشعراء وجوهرة الأدباء» (6)

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

قضى الشيخ حمد بن عيسى الطائي ثماني سنوات في دُبي وشرع في إتمام العشرة، بعد انتقاله إلى أبوظبي، والتحاقه بوزارة المالية مستشارًا مع المغفور له بإذن الله محمد حبروش السويدي، الذي كان ردءًا للشيخ زايد آل نهيان، وذراعه الطولى في تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

في تلك الحقبة كانت سلطنة مسقط وعُمان تطأ في خطامها، وحُكْم السيد سعيد تشرف شمسه على الأفول، وشغر الوهن برجله في أركانها، واحمرّت زفرات التمرّد في جبالها، وشدخ التأخر عن ركب الحضارة سِنامها، وتفرق بنوها بين سِفاح الجبال، وأكثرهم ظعنت به راحلته إلى بقاع شتى في مشيخات الخليج وغياهب إفريقيا، ومصر، وبلاد الشام والهند وباكستان بحثًا عن حياة كريمة ومُنتجة.

فلما جاشت قدور الفتن، وماجت سفينة عُمان في لجة المحن، وعصفت بها رياح الوهن، وتقاذفتها الغمرات قيض الله لها السلطان قابوس بن سعيد- طيّبَ الله ثراه- نِعْم الرجلُ الجحجاحُ المسوَّدُ في قومه، دَرَّ دَرُّه وتفجّرت ينابيع خيره، يوسّد المشورة إلى أهله، ويأزر الرأي إلى صحبه وعلماء عصره، كان بعيد الهمّة، لا يستأثر برأيه، ويؤثر الإجماع في كل أمره، ولا يتوانى عن الإزماع في نهضة شعبه، خوَّاض في أفلاج النهضة لا يهين ولا يستكين.

فلما كان يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1970، أشرقت شمس الأمل على عُمان، وتفتحت ورود النهضة والحداثة، وعلى إثر ذلك دعا السلطان قابوس- رحمه الله- الجميع إلى العودة إلى البلاد للمشاركة في مسيرة البناء والتنمية، آمِرًا رئيس الوزراء السيد طارق بن تيمور- جعل الله الجنّة مقره ومثواه- "أن يتخذ الخطوات الفورية لتشكيل حكومة على أساس إسناد المناصب للمواطنين اللائقين حيثما وُجِدُوا، في الداخل أو في الخارج".

وعلى جناح الإجزام، طارت الرسائل المُبشرة، من أول رئيس للوزراء في فجر النهضة المباركة، تنشد الضالة في أصقاع الدنيا الواسعة، وتستحث أهل عمان ورجالها وأشبالها وضراغمها المتفرقات في سائر أشتات الأرض متعهِّدًا برد معاقد الحقوق إلى مواضعها من الذمم.

وكان من بين وفود العائدين من أبوظبي إلى مسقط العامرة عام 1970 طائران طائيّان، أينما هبطا تجمعت قِزَع الخريف المتناثرة، وتقاربت رُكاما هاطلة في البطاح والوهاد المقفرة، وتفتحت في غيطانها الأكمام الصامتة، وأزهر الطلع والنوّار في بيدائها المقفرة، واشرأبت الأعناق إليها متطاولة، وتطلعت العيون المونقة متشوِّفة؛ أمَّا الأول فهو الأديب الراحل عبد الله الطائي الذي أحدث نهضة أدبية ما زالت أصداؤها مترددةً ما بين حاضرة الكويت، وفِجاج أبوظبي، وأخاديد باكستان، فلما قفل راجعًا إلى مسقط التقى السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- واحتفى به رئيس وزرائه السيد طارق بن تيمور- رحمه الله- وأسندا إليه وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (آنذاك)، وكان له فضل تنظيم وهيكلة الإذاعة العمانية؛ لتكون مشعل تنوير وراية إعلامية خفاقة، وتأسيس جريدة "الوطن" مع أخيه الراحل نصر الطائي، وغيرها من إنجازات خالدة في عمره القصير.

أما الطائر الثاني فقد وضع دعائم نهضة إدارية حديثة وأسس لرؤية استثمارية منفتحة على العالم، وتسامر التُّجّار ورجال الاقتصاد بسيرته الفواحة في سائر المدن الزاهرة وهو الراحل الشيخ حمد الطائي الذي كان أخا جُودٍ ووصالٍ لا ينقطع، وعاقدَ عُروة إخلاصٍ مع السيد طارق لا تنفصم، فلما وصله خِطاب الإذن بالعودة خلع لَأْمَةَ الاغتراب، وانتضى سيف الحنين، وأجهد نفسه في سباق تلبية النداء غير متجانفٍ لِمَكْرُمة ولا طامعٍ في عطية، فركب مهجة الاشتياق، وشمّر عن ساعد العطاء، وتولّى مسؤولية دائرة العمل بضع سنين؛ حيث عمل جاهدًا لجذب الكفاءات العمانية وعودتهم إلى أرض الوطن، كي تشمر عن سواعد الجد في معركة البناء والتعمير.

فلمّا عزم السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- على تطوير وإعادة هيكلة "المطابع السلطانية" التي كانت تقع في مسقط بالقرب من موقع قصر العلم في الوقت الحالي؛ لم يجد غير الشيخ حمد الطائي لهذه المُهمة، فعلى يديه تؤخذ الحقوق مُسمِحة، رجل لا تفتّ في عضده السيوف المهندة، ولا يُطأطئ رأسه إذا ترسبلت الفتن بأثواب أولي النهى والقياصرة.

لقد كانت بدايات عصر النهضة تُوجف بولي الأمر وحكومته إلى التبديل والتغيير سراعًا بغرض التطوير والتحديث؛ فقد ارتأوا استبدال مسمى "المطابع السلطانية" بـ"المطبعة الحكومية"، وصار الشيخ حمد مديرًا عامًا لها، فتوسعت المهام والأنشطة، وشُيِّد مبنى حديث لها ومجهز بالمطابع الحديثة في منطقة روي بالقرب من مركز الشرطة. ولم يكن من الأمر بُدٌّ في التشمير عن ساعد الجد، ولات حين مناص، وصارت المسؤوليات جمّة، والرغائب واسعة، والغايات مفتوحة، فآثر الكدح، وعوّل على الموظفين في المؤازرة، فلم يحِف على أرزاقهم، ويرمل في المصائب إلى مواساتهم، ويدفعهم إلى المثابرة في أعمالهم، وكان يكتفي عند الغضب من نكوصهم أو وهنهم برمقهم من شفن عينيه بنظرة ثاقبة غاضبة، ويتأفف من كل موظفٍ كسول؛ فيأخذه بالمهادنة ويصلح أخلاقه بالمتابعة والتحضير، وينتزع من طباعه كل غائلة، ويطرد من عينيه وسائد الكرى، ويجوس في نفسه باعثا همّته.

حقيقة الأمر أنا لم أعاصر الشيخ حمد بن عيسى الطائي رأي العين؛ بل نقلت أصداء سيرته الذاتية من أفواه معاصريه وقرأتُ مسيرة حياته من مُقابلات أهله وبنيه، التي وثقها الفاضل أحمد بن عبد الله بن أحمد الكندي؛ ولهج بها الأستاذان: أحمد عبدالعزيز أبو السعود والسيد جابر علي، ممن عاصروه وارتأوا فيه مدرسةً متفردّةً في فن الإدارة، يتخذ من الاعتدال نبراسًا يستضيء به طرقات المستقبل الغابشة، جمّاعًا للأكفاء والكفاءات، روَّاعًا إلى ذوي النباهات، ذَهَّابًا في كل الاتجاهات يستحلب الخبرة أنّى وجدها، نوّامًا بعد العشاء الآخرة، قوّامًا إذا انفلق الإصباح؛ متنصّحًا للموظفين غير نكّاث للعهود والمواثيق وإن أدمت معصميه، وحزّت الوريد إلى إبطيه، لا يجد غضاضةً في الاستماع إلى شِكاية أو اقتراح يمهد الطريق إلى النجاح، مُرقِلًا في النزوع إلى الحق والقصد في الاعتدال، فقد كان ينبوعًا للعطاء والبذل، ونبراسًا للخير وأداء المعروف والإحسان للجميع.