لغة الضاد

 

وداد الإسطنبولي

كنت أجلس بقربها نتجاذب أطراف الحديث، قصصها وخيالاتها وواقعها ينسج جمال السرد الذي تتفوه به، لم تكن تتعالى عليَّ، بما أتلفظ به من كلام، إذ إنَّ حديثي معها كان عامياً- وهذا الغالب المتوقع مني- أما هي فقد كانت حروفها منضبطة، تتحدث فتطربني، ثم يغمرني ذلك الإبداع والسلاسة، والدلالات والرمزيات في الفصاحة والبلاغة، سرحت بفكري في عالمها، برغم ذلك الأسى الذي أشعر به بين كلامها.

فما تقول وتتفاخر به، أن هناك حرفاً لا يُوجد في أي لغة، وربما هو من تميزت به وميزها، وإنها خالدة بخلود ذلك الإعجاز الإلهي الذي نفخ من روحه فيها، فأنطقت بسر ذلك الجمال، وأصبحت الهوية العربية الآن خالدة بخلود استمرار وجودها.

نعم، هناك علاقة وثيقة بين الضاد والثقافة، فهي تعكس قيمنا وما يرتبط بعلاقاتنا الاجتماعية، وأن هذا العالم الزاخر بالتنوع في أصوله، ومعتقداته وأساليبه وفنونه؛ ليستحق أن نسطر له ويأخذ مساحة إن لم تكن مساحات من سطورنا. يحضرني هنا مبادئ التعاون للحوار، إذ كنت أتصفح الشبكة العنكبوتية، فاستوقفتني صفحة تناسبت مع هذه المناسبة (مبادئ بول غرايس اللسانية التخاطبية) - بول جرايس هذا الفيلسوف من فلاسفة إسكفورد المختصين في دراسة اللغة الطبيعية- له بحث بعنوان "المنطق والحوار" صاغه على النحو التالي:

"ليكن إسهامك في الحوار، بالقدر الذي يتطلبه سياق الحوار، وبما يتوافق مع الغرض المتعارف عليه، أو الاتجاه الذي يجري فيه ذلك الحوار".

فهذه الضوابط ربما الغاية منها الوضوح في المعاني، التي يتناقلها المتكلم والمخاطب، فهذا إن دل إنما يدل أن لغة الضاد حبالها طويلة، والحديث عنها شائك، لأن هناك أمور كثيرة متداخلة فيها يطول شرحها، ولها في ذلك ألسنة ناطقة بها، لهم العلم والدراية في بحرها، والعوم في لذة أصولها.

وإن رجعت إلى سابق الذكر، عندما لمحت نظرة الأسى في عينيها، فلربما أستشففت ذلك التحدي منها في البقاء للخلود، ويحق لها هذا الارتباك والقلق والخوف؛ فربما هذا الخوف نابع من مشاهدتها لبعض الحضارات انتهت، أو أن بعض اللغات انقرضت واحتلت أخرى مكانها، فهي تريد أن تبقى وتعتلي مكانتها ولا تتزحزح، لأنها المثلى وتستحق البقاء.

لهذا... وفي هذا الصدد تحديدًا، أجد أن دور الإعلام التقليدي- الإذاعة والتلفاز- كبير في نشر اللغة العربية، من خلال إبراز الشخصيات المحورية والاعتبارية- وهذا أضعف الإيمان- التي لها باع طويل في مضمار اللغة والأدب العربي، بحيث جعل هذه الأسماء تتصدر المشهد الإعلامي العام، بصورة دائمة وغير متقطعة. مما لا شك فيه، هذا سيعزز ويطور لغة العامة، من خلال استماعهم للمفردات العربية الأصيلة والرزينة، من تلكم الشخصيات المؤثرة والملهمة.

وتقاطعا مع الدور الكبير للإعلام التقليدي، يجب ألا ننسى أو نتناسى، الحضور البارز لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، في نشر ذلك الوعي وتلك الثقافة للغة الضاد، إذ إن وسائل التواصل الاجتماعي باتت لغة العصر، وقناة عبور مدفوعة التكاليف مسبقًا، للوصول للجيل الجديد الذي نعول عليه، حمل أمانة الكلمة بلغة القرآن الكريم. فإذا ما أردنا أن نحقق الهدف والغاية مع الجيل الجديد، أصبح لزاما على تلكم الشخصيات المحورية والاعتبارية أن تقحم نفسها في فضاء التواصل الاجتماعي الشاسع، أيضا بصورة دائمة وغير متقطعة، فمثلما سيضيفون للجيل الجديد أبجديات اللغة ومفرداتها المدهشة، سيضيف الجيل الجديد لهم أبجديات التقنية وأدواتها العصرية، وهنا سيلتقي الجيلان، بين مطرقة لغة الضاد، وسندان التقنية المعاصرة.

عودة إلى الواقع.. إعداد البرامج والأنشطة المخصصة ليوم اللغة العربية، أمر رائع وجميل، ويفرحنا أن نرى ونسمع هذا، ولكن هل تكفي تلك البرامج المخصصة ليوم واحد، أن تبدد نظرة الأسى في عيني فاتنتنا المدللة " لغة الضاد" ؟؟؟!!!

************

مرجع النص: "ليكن إسهامك في الحوار...": نص من مبادئ بول جرايس اللسانية التخاطبية https://www.3lom4all.com/vb/showthread.php?t=20209