أنتِ طالق!

 

عائشة السريحية

 

الجدار الذي أطال النظر إليه بعد عودته للمنزل، لم يكن ليُحدثه، بقايا الأصوات المترنحة في خبايا ذاكرته، باتت طيفًا لا يطيل المكوث، أعقاب السجائر ملأت أرضية الغرفة دون أن تجد من ينظفها، كوب القهوة الذي اغتيل في لحظة ما مازالت آثاره مرسومة وكأنها مخطط طريق نحو اللاشيء.

سريره لم يرتب، وملابسه لم تصفف، متناثرة بعشوائية في أرجاء المنزل، مطبخه تراكمت فيه الأواني، رائحة العفن تصاعدت من سلة المهملات، لقد فقد النظام.

في منزل آخر، حجرة تضج بحناجر صغيرة، أرواح عديدة تحشر في غرفة لا تكفي، تتصاعد نحو السقف تنهيدات تائهة، أصابع نحيلة ترجف، إحباط ينشب أظافره في جسد ثلاثيني منهك، دموع بكماء تتسرب بحذر نحو الأسفل، وقلب أضنت أوردته تقلبات الظروف.

قبل ثلاثة أيام، كانت الحياة تُعلن تواجدها، بالضوضاء التي يحدثها أولئك الصغار الثلاثة، يلاحقون بعضهم، يبتكرون الألعاب، يخططون للحصول على مصروفهم ليشتروا الشكولاته من الدكان المجاور، رغم ضوضائهم إلا أنهم كانوا طاقة إيجابية تنبعث في موجات تجعل كل الأشياء الساكنة وكأنها تتحرك، عاد هو من العمل متأخرًا، كانت هي تعد الطعام، كانوا هم يلعبون الغميضة في المنزل، هو أخرج علبة سجائره وبدأ ينفث الدخان يفكر في قروضه البنكية التي تأبى أن تنحسر، هي تخرج غاضبة بسبب رائحة التبغ.

هي:

"لا تدخن هنا، لم أعد أحتمل هذه الرائحة"

هو غاضبا:

" ورائحة البصل والثوم التي تفوح في أرجاء الشقة هل أحتملها؟".

هي:

"لست أخطبوطا لأعمل بعدة أذرع"

هو:

"أسكتي إذن، فلا رغبة لي بسماع صوتك الحاد"

هي:

"احضر لي خادمة وادفع لها راتباً ثم أسكتني"

هو:

"وأنا سائق ومندوب توصيلات، ومهام لا تنتهي"

هي:

"إن لم تكن قادرا فلم تزوجت بنت الناس؟"

هو:

" احمدي الله أني طرقت بابك"

هي:

" الحمد لله على الضراء والمصيبة"

هو:

"أنا ضراء ومصيبة؟"

رائحة الطعام المحروق تملأ المكان، لكنهما لم يدركا ذلك.

هي:

"أقعدتني في المنزل خادمة لك ولأولادك، ثم تأتي آخر النهار لا أعلم من أين لتستفز ماتبقى من صبري"

هو:

"أعمل وأكدح من أجل أن تتسوقي آخر الشهر وتحضري الحفلات والمناسبات"

هي:

"اللهم صبرني على ما ابتليت به"

يغضب فيرمي كوب القهوة الذي كان يرتشفه على الأرض، وهم يختبؤون في الزوايا، الصغير خائفًا يبكي، والوسطى، تعض أظافرها، والكبرى صامتة جدا لدرجة الجمود.

هو:

"ولم الصبر عودي لبيت أهلك"

هي:

"تطردني!، والله لن أجلس دقيقة واحدة"

هو:

"وبلا عودة"

هي:

"طلقني"

هو:

"أنتِ طالق"

هم، لم يعوا شيئاً، فغداؤهم لم يتناولوه، وثيابهم لم يبدلوها، ولا يعرفون لِمَ رحلوا من منزلهم دون سابق إنذار، ولِمَ تركهم والدهم، هم لا يدركون أنَّ الخلاف أحيانًا يعني النهايات، ولا يعرفون لم يختفي هو فجأة، ولم تدخل هي في دوامة حزن طويلة، لا يعرفون لم توقف الاثنان عن اللعب معهم، أو الاهتمام بهم، لكنهم بعد 3 أيام، عرفوا كلمة جديدة اسمها "الطلاق".