موقف من ذاكرة الخذلان!

 

عبدالله الفارسي

 

الزمان: صيفًا بين عامي 1993 و1995.

المكان: هنا، وهناك

"من الطبيعي أن أحلامنا لا تتحقق ونحن نائمون، وحين تشرق الشمس هناك من يتربص لها ويقنصها كما يقنص البط البري"، صمويل بيكت.

حين تخرجت في الجامعة في العام 1990 شعرت شعورا غريبا بأنني مختلف كثيراً عن ماكنته سابقًا، بمعنى شعرت فعلاً بأنني لست ذاك الطفل الصغير الذي دخل الجامعة في صيف العام 86، بمعنى أكثر بياضًا، لقد شعرت بأنني تغيرت تمامًا، وأصبحت رجلا ناضجا لدرجة يمكن الاعتماد عليه. فقد تخرجت في الجامعة أحمل عقلا مشحونا بالأفكار والرؤى والأحلام والمصائب العقلية، لدرجة أنني أدركت تماماً أنه ليس مكاني في وزارة التربية، وإنما مكاني الحقيقي في الجامعة أو في مؤسسة تتبنى العقول الغريبة المتفلتة، والأفكار المضطربة الهائجة. تخلصت من ذلك الشعور المتعالي بسرعة، وخفضت من مستوى طموحي المرتفع، وطعنت ظهر كبريائي المتسامق، فحملت حقيبتي مضطرًا وتوجهت إلى أولى المدارس التي أرسلوني لها.

بعد سنتين من التدريس تأكدت أني في وادٍ، وطلابي في واد آخر من الكرة الأرضية، وأكد لي مدير المدرسة حين كان يزورني أسبوعيا ويجلس معي حصصًا كاملة، وفي نهاية كل حصة كان يخرج وهو يضحك ويضرب كفا بكف، فأقول له: ولم هذه الكفوف يا مديري!! فيقول لي: عبدالله طلابك في الأرض، وأنت في المريخ، أتمنى أن تنزل إليهم يومًا ما!

لم يتغير الحال كثيرا، ولم أنزل إلى الأرض.

فهاجمني ذات الشعور المتعالي السابق، وارتفع مستوى طموحي لدرجة كبيرة ومزعجة سبب لي كثيرا من الأرق والسهر والسهاد، فقررت التوجه إلى الجامعة، والبحث عن مكان لي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية.

وفي صيف العام 93 توجهت إلى الجامعة لمقابلة نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، طبعًا المفترض مقابلة نائب رئيس الجامعة للشؤون الإدارية ولكن لأنني كنت أبحث عن وظيفة أكاديمية وليس إدارية، فكانت موافقة الجانب الأكاديمي تأتي قبل موافقة الجانب الإداري.

ضربت موعدا مع نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، لم أنم ليلتي تلك كعادتي حين يشغلني شاغل أو يكون معي موعد مهم وحاسم. صليتُ الفجر وانطلقت بسيارتي إلى العاصمة عاصمة المال والأحلام! وصلت إلى الجامعة في وقت مثالي جدا قبل الموعد بنصف ساعة، تعودت التبكير في الحضور إلى أي موعد، ومازلت محافظًا على هذه العادة القبيحة، وكأن أحد يكترث بحضوري سواء جئت متقدماً أو وصلت متأخرًا!

صعدتُ إلى مكتب نائب رئيس الجامعة ووضعت في قائمة الانتظار، وجلست في غرفة انتظار فاخرة جدًا، وبدأت ممارسة التأمل في المكان، سرحتُ بأفكاري فوق المكان وبين ثنايا الزمان حتى خدرت وغفوت، ولم أستيقظ إلا مع  صوت منسق المكتب، وهو يناديني: "أستاذ عبدالله أنهض، تفضل، الدكتور في انتظارك".

دخلت على الفاضل الدكتور نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، استقبلني ببرود تام، لم يسألني عن الحال والأحوال كعادة الشعب العُماني، ولم يبتسم في وجهي كعادة العرب حين تبش في وجه الزائر وتبتسم للضيف وللقادم من بعيد.

على العموم.. كنت متوقعاً هذه المقابلة الجافة، لأنني عشت في الجامعة 4 سنوات كاملة، وكنت على دراية كاملة بنفسيات كل مسؤوليها، وطريقة تعاملهم مع الطلبة ومع من هم أقل منهم شهادة وأدنى منهم وظيفة.

فسألني بجفاء وجفاف: تفضل، ماذا عندك؟

قلت له: أنا خريج هذه الجامعة، الدفعة الأولى، وأعتقد حين يكون الخريج من الدفعات الأولى، يفترض أن يكون له موطئ قدم في جامعته. فقال لي: لم أفهم قصدك. فقلت له: أنا خريج قسم الفلسفة وعلم الاجتماع، وهذا كشف درجاتي. استلم مني كشف الدرجات بتأفف وامتعاض وكأنني أسلمه خرقة نتنة، ونظر إليه نظرة خاطفة، لا أظن أنه نظر إلى المعدل أو ركز على الدرجات؛ بل أعتقد أنه لم يقرأ اسم مساق واحد فقط من المساقات المائة التي درستها خلال سنواتي الأربع، فقال لي مباشرة: ادخل في الموضوع، ماذا تريد بالضبط. فقلت له: أرغب في الالتحاق بالكادر الأكاديمي الجامعي وأتمنى قبولي كطالب ماجستير وكمعيد في قسم الفلسفة. ابتسم نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية ابتسامة صفراء، وقال: بهذه السهولة؟ فقلت له بعد أن بحلقت عيني كبومة متوحشة ووجهت له نظرة صارمة خالية من الوهن والضعف والاستكانة والخنوع والتي اعتاد مشاهدتها في وجوه من يستقبلهم في مكتبه، وقلت له: أين المشكلة أو الصعوبة في الموضوع؟ أنا خريج الدفعة الأولى من هذه الجامعة، وأشعر أنني متميز في تخصصي. والدليل أمام عينيك، وأنا جاهز لأي مقابلات في التخصص أو اختبارات في المستوى والكفاءة، وأخرجت له نسخة من شهادة تزكية منحتني إياها الدكتورة الرائعة المرحومة سعاد عبد الرازق أستاذة الأخلاق والفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، والتي رافقتنا لمدة 4 سنوات كاملة في مشوارنا الدراسي بالجامعة، حتى التخرج. لقد منحتني شهادة تزكية عظيمة أعتززت بها أيما اعتزاز، وبروزتها في برواز مذهب، وعلقتها في صدر مجلسي. تخلصت منها زوجتي لاحقًا، ومزقتها في إحدى موجات شجارتنا الشهرية المنتظمة!

وما زلت لا أنسى عبارة المرحومة الدكتورة سعاد أثناء وداعي لها في المطار، حين قالت لي: "عبدالله أنت تحمل عقلا سفسطائيا مزعجا، وقلبا فلسفيا عميقا، سيرهقانك كثيرا وسط هذا العالم الأحمق الذي يُحيط بك".

علقت شهادتها التي كتبتها في ورقة بيضاء عادية بخطها الجميل، في صدر مجلسي، وافتخرت بها أكثر من افتخاري بشهادة البكالوريوس الرسمية، والماجستير لاحقاً، واللتين رميتهما في صندوق ملابسي القديمة ومندوس المهملات المنتهية الصلاحية.

فقال لي نائب رئيس الجامعة: ومن قال لك إننا في حاجة إلى معيدين في القسم؟ فقلت له: لديكم طاقم أكاديمي مصري بالكامل، والجامعة حتمًا بحاجة إلى كوادر عُمانية، وأنا أحق وأولى بأن أكون بينهم، أم أننا لا نستحق ذلك؟! تلعثم، وحاول إخفاء توتره، ولكني باغته بجملة خفضت من كبريائه وشعوره بالعلو والفوقية: "دكتور، أنا ابن البلد، وابن هذه الجامعة، وأملك المؤهل وأحمل الإمكانات النفسية ولدي الوطنية والرغبة الجامحة لأكون أستاذا محاضرا في هذه الجامعة".

فقال لي بكل برود: آسف، لا يوجد لدينا شاغر أكاديمي حاليًا، وحين نحتاج سنتواصل معك (رغم كثرة الشواغر وتوافرها وحاجة الجامعة إلى معيدين جدد في تلك الفترة)!

قذف جملته القاتلة في وجهي، وهو يعلم تماماً أنها جملة تحدد مصير شاب، وتغير مسار مستقبله وحياته بالكامل. لم أياس، فقررت مقابلته مرة أخرى، فقابلته ثلاث مرات متتالية وخلال ثلاث سنوات متتالية، حتى كرهني وكرهته، ومنع دخولي لمكتبه وحرمني من مُقابلته!

وما زلت لا أنسى وجه هذا الرجل وموقفه معي وكيف خذلني وحطم حلمي وقتل طموحي.

عدت أدراجي إلى مدرستي حاملاً أذيال الخيبة، محاولا نسيان ودفن محاولتي الأولى مهيئًا نفسي لخذلان آخر وتحطيم أكبر وانكسارات قادمة!