قليلٌ من كثيرٍ

د. خديجة الشحية

Khadija82013@gmail.com

تعودتُ عند ذهابي إلى عملي أن أجد نسختي من الصحف المحلية على مكتبي، كان يحضرها رئيس القسم من البوابة الرئيسية، عند دخوله مبنى الوزارة، وأصبح يحضرها لاحقاً العامل، كنتُ أستمتع بقراءتها جدا، عند انتهائي من مهام عملي في إعداد البرنامج، وكنت استمع لتعليقات الزملاء والزميلات بأنني ما زلتُ متأخرة في قراءة الصحف من النسخة الورقية ويوجد هناك في الهاتف كل ما أود قراءته من الصحف.

كنتُ أبتسم على تلك التعليقات وأبرر بأنها الوسيلة المُريحة لي في قراءة كل الأخبار والمقالات وأنا أرى الصحيفة أمامي على عكس استخدام الهاتف وتكبير الخبر تارة وتصغيره تارة أخرى، وغير هذا وذاك فأنا أستخدم النظارة للقراءة، وحينما لا أجد وقتاً لقراءة الصحف في العمل، كنت أخذ معي النسخ للبيت وأقرأها بأكملها دون أن أهمش خبرا أو مقالا، أعتدت على ذلك حتى أنني أقف عند كثير من المقالات وأرجع لقراءتها مرارا، لربما أجد فيها ما أبحث عنه من معلومة وبعض الأحيان تتقاطع معي في مضمونها وتحكي شيئاً من حالي، وتسرد وضعا كنت أعيشه صدقا، في إحدى المرات وأنا أتصفح الصحف التي لم أتمكن من قراءتها في وقتها، أستوقفني مقال الأستاذ الفاضل طالب المقبالي في جريدة الرؤية للعدد رقم 3082 بتاريخ 31 مارس 2021 والمعنون "رحلتي مع مهنة المتاعب 2-2" قرأته حرفًا حرفًا، لم يتسنَ لي الوقت بقراءة الجزء الأول ولكني لحقت على الجزء الثاني وحقًا ما كتب، لا تخلو الحياة الإعلامية من تعب واحتراق وأكل جهد ووقت، فلي مع هذا الوضع قصص كثيرة أنا التي كنت أكتب في زمن الحياة البسيطة والتي كانت تخلو من سبل الرفاهية ووفرة المال، عندما بدأت بهواية القراءة كنت لازلت طفلة وطالبة في الإبتدائية والمجلة الوحيدة التي كانت تدخل بيتنا بين فترة وأخرى هي مجلة "جند عمان" بحكم عمل والدي في وزارة الدفاع كان يجلب المجلة ويقرأها أولا، ومن ثم يعطينا إياها، كنت أتصفحها وأقرأ كل محتوياتها من الألف إلى الياء حتى تولدت لديَّ الرغبة لأن أرى أسمي في الصحف والمجلات وبدأت أراسل الصحف وأرسل لهم بخواطري ومقالاتي، ولم أكن أرى منها ما كان ينشر، كنت أرسل لهم بالبريد العادي بعدها بأشهر وجدت إحدى خواطري قد تمَّ نشرها وفرحت بها لدرجة أنني احتفظت بها في ملف خاص وظللت أرسل لهم وبدورهم كانوا ينشرون الصالح منها ويستبعدون غير الجيد.

هذه القصص هي مدخل فقط، ولكن المقصد من هذا المقال، أنني كنت عكس الطبيعة كما يقولون حينما كانت المقالات ترسل بالفاكس مطبوعة كنت أنا أرسلها بالبريد العادي بخط اليد وحينما كانت ترسل بالبريد الإلكتروني كنت أنا أرسلها بالفاكس وأيضاً بخط اليد، والحمد الله لولا جمالية الخط الذي كان يميزني لما تم نشر مقالاتي بالصحف، وكان محرر الصفحة يعاتبني عند اتصالي بالرقم الأرضي الخاص بالقسم "أخت خديجة الناس تطورت.. وأنت بعدك على خط اليد والفاكس"، والذي لم يكن يعرفه ذلك المحرر بأنني كنت ابنة جندي راتبه بسيط جدا جدا جدا ويعيل أسرة مكونة من ثمانية أفراد لا أستطيع أن أرهقه بثمن طباعة مقالاتي وثمن قيمة الفاكس من محل الطباعة.

حقيقة.. لا أخفيكم كنت أخجل أن أطلب من والدي تلك الخدمة لكي لا أرهقه فوق ما يعانيه ليوفر لنا متطلبات المعيشة، على الرغم من أن والدي- رحمه الله- كان يسعد ويفرح عندما يجدني قد نشرت شيئًا بالصحف، ولاحقًا بدأ هو من يشتري لي النسخة الورقية من مكتب الأندلس لتخليص المعاملات (مكتب سند بخصب)؛ لعدم توفر المكتبات بخصب ويفترش الليوان (صالة البيت)، ويقرأ لي المقال ويقف عند أخطائي الإملائية ويقول لي "ركزي لما تكتبي شيء عن يقولوا بنت سليمان ما تعرف تكتب"، حتى بدأتُ فعلا بالتركيز على الأحرف والجمل في ألا يصيبها ضعف أو نقص، إلا إذا حدث سهوًا دون أن أنتبه بكلمة ناقصة بأحرفها. والدي لم يدرس في المدارس، لكنه تعلم الكتابة والقراءة وحفظ القرآن الكريم في مدارس تحفيظ القرآن الكريم بخصب، وقد حرصت على الاستمرارية في مراسلة الصحف المحلية والخليجة والعربية وكانت تفرحني تلك القصاصات أيُّما فرح، كانت تلك المنشورات الصحفية هي الباعث لفرحي وسط احتياجات كثيرة كانت تنقصني، اجتهاداتي في صنع فرح بسيط لي ولأسرتي كان يتخللها الكثير من الاحتراق والتعب، ورفض المقالات التي كنت أتشوق لنشرها ولا تنشر، ونشر بعض منها بعد فترة من الانتظار كان يعد إنجازًا لي، حتى تم اعتمادي كاتبة عمود أسبوعي بجريدة عمان، وأصبحت أتقاضى عليه مبلغا بسيطا من المال لا يكاد يذكر (تقريبا 7 ريالات كل شهرين) كانت تنزل بحسابي، لكنه كان يُفرحني وكنت أتقاسمه مع إخوتي.. نحن البسطاء لا نحتاج للكثير لنسعد أو يدخل الفرح لقلوبنا، فرحنا غير مبالغ به، وغير مبالغ فيه أبدًا.

دخولي المجال الإعلامي كان سببه تلك المراسلات للصحف وتلك المقالات البسيطة في عمود بصحيفة محلية قدرت حجم اجتهادي لأن أكون كاتبة ولو بحروف متواضعة غير متكلفة في تعبيرها ولا مُسِفَّة في مضمونها. وظيفتي السابقة في القطاع الخاص بمؤسسة أكاديمية تعلمت منها الكثير، وأهمها كيف استثمر الوقت وكيف أنظم وقتي وأستفيد من كل دقيقة. كما إن عملي مع غير العمانيين في تلك المؤسسة الأكاديمية صنع مني امرأة تسعى لأن تستخلص الفائدة من كل دقيقة تمر عليها، وهذا ما جعلني أواصل العمل الليل بالنهار، حتى أنهيت الدراسات العُليا واكتسبتُ الخبرة منهم، والاهتمام بكتاباتي الخاصة والسعي للحصول على وظيفة حكومية.

ولأنني عايشت شظف العيش والقناعة بما كان متوفرا لنا جعلت نصب عيني وتحقيق المستوى المعيشي الأفضل لي ولأسرتي ولو بما هو مقدور عليه،، وسعي حثيث لتحسين الوضع المادي قدر المستطاع إلا أن الظروف من حولي لا زالت سيئة وهذا ما ينعش الإحباطات مجددا بداخلي والاكتئابات في نفسيتي، تغيير موقع العمل قد يساهم في إيجاد بيئة عمل تقدر وتثمّن ما يبذله الموظفون لأجلها.

ألف رحمة على روح والدي الذي ساندني، وأنا على يقين أنه لوكان حياً الآن بيننا لأسعده الإنجاز اليومي الذي أحققه والاجتهاد المضني الذي أسعى من خلاله لأن أكون بمكانة أستحقها، ولقلب أمي- حفظها الله- ولدعواتها الطيبة والتي ترافقني بصوتها كلما هاتفتها.

أحياناً نتخلى عن رغباتنا وأحلامنا لأجل أن نرى تلك الفرحة بأعين أهلنا وجل ما أجتهد لاستدامته هو أن أوفر الراحة لأمي، فهي أم من بين الأمهات اللاتي تعبن حقًا حتى كبرنا، تحملت الكثير وعانت الأشد، قليل بحقها أن سعيتُ لإسعادها وهي التي تحملت لأجلنا الكثير.. من لديه أم همها الوحيد أن ترى أبناءها من حولها سعداء، تستحق حقًا أن تُحمل على أكف الراحة.