هذا الوقت سيمضي!

 

فاطمة اليمانية

"لا يوجد دليل على أنّ الرجال أكثر عقلانية من النساء، يبدو أنّ كلا الجنسين على نفس الدرجة من الجنون"! "ألبرت إليس"

***

لفَّ عمامته حول رأسه، وغطّى أنفه مرددا:

  • برّد!

ثم قال لزوجته:

  • أنتظركم في السيارة!

وبعد عشر دقائق من عراكِ زوجته مع أطفاله، وعودة أحدهم أكثر من مرّة للمنزل باحثاً عن كتابه، ثمّ عن فردةِ حذائه بعد أنْ لمحته والدته يمشي بفردة واحدة فقط؛ لتصرخ في وجهه:

  • سَأجُنّ بسببك!

تأفّف الولدُ، وقال محتّجا:

  • أستطيع المشي بفردةٍ واحدة!
  • ولد!
  • لا أعرف أين اختفى!

فاتّجهت مسرعةً للفناء الخلفي؛ لأنّها رأته بالأمس يتراشق مع شقيقته بالأحذية، وبالفعل عثرت عليه قرب سلّة المهملات، فالتقطته، واتّجَهَت لإعطائه الحذاء؛ فرأت ابنها واقفا يحدّقُ في الفراغ؛ فضربته بفردةِ الحذاء، وأصابت رأسه! وقلبَها معه! فكيف استطاعت أنْ تقذفه بالحذاء هكذا! وقالت له مُخفْيةً تَأثرّها الذي فضحه صوتُها المرتعش:

  • اِرتدِ حذاءَك، والحَقْ بنا في السيارة!

وخرج بعد خمس دقائق واضعا فردة حذائه على رأسه، فوصله صوت والدته:

  • لم يصنع الحذاء للرأس؟
  • لماذا ضربتني به إذا؟!
  • صبرك.. يا رب!

بينما اكتفى زوجها بالقيادة، وكأنّه ليس فردا في هذه العائلة، وكلّ همّه إيصالهم في الوقت المناسب قبل رنّ الجرس، وسيوصل زوجته أولا؛ حتّى لا تردح على رأسه، أو تقصفه بفردة حذائها كما فعلت مع ابنه! وكان خياله كفيلا بإثارة ضحكه؛ لكنّه كتم ذلك؛ وتحول الضحك إلى سعال شَرِق به!

فقالت له:

  • ما بِك؟!
  • كُحّة!

فأخرجت هاتفها تتأمل الرسائل الصباحية في مجموعةِ المدرسة، وكانت تقرأ كلّ رسالة؛ وتعلّق على جدول الأعمال خلال اليوم، وهي تردد:

  • هذا الوقت سيمضي! هذا الوقت سيمضي!

متأثرة بقصّةٍ قرأتها عن ملكٍ هنديّ طلب من وزيره أنْ ينقشَ على خَاتَمِه عبارةً؛ لو قرأها وهو حزين؛ يفرح، ولو قرأها وهو سعيد؛ يحزن!

ولم تفق من إعجابها بعمْقِ العبارة إلّا بعد سماعِ صوت زوجها، وأولادها:

  • انزلي!

فقالت لزوجها:

  • ظننتك ستوصل الأولاد في البداية!
  • حتّى لا تتأخري، وتتعرضي لمساءلة قانونية!

نزلت وفي داخلها رغبة للعراكِ مع زوجها، كانت تريد أنْ تفرغها على قمّة رأسه بعد إنزال الأولادِ، والاستفراد به! ولتخبره بالأماكن التي تريد الذهاب إليها؛ بما أنّه في إجازة لمدّة يومين!

وعندما قال لها:

  • أعطاني الطبيب إجازة!

تهلّلَ وجهها، وقالت له:

  • الحمدلله رب العالمين، أخيرًا سأتمكن من الذهاب إلى الخيّاط، ومحلّ تنجيد الأثاث، وقالوا بأنّ متجرا كبيرا تمّ افتتاحه قريبا، وستأخذني للتّسوْق!
  • إجازة مرضية!
  • نعم، أفهم ذلك!
  • مقترحاتك تدلُّ على أشياء بعيدة عن الفهم!

لذلك نزلت إلى عملِها مقطّبة عابسة، وبدأ يتلاشى تقطيب الجبين بعد مشاهدة العاملة، وهي تحمل بخوراً مبتسمةً مغالبةً هجمةً شرسةً من نعاس!

  • رغم ذلك تبتسم!

فبادلتها الابتسامة!

بينما غيّر زوجها طريقه، بعد رؤية ابنه ساهِما، واضعا يده على رأسه؛ متأثرا من ضربةِ الحذاء!

فسأله:

  • هل توجعك؟!

لم يرد عليه؛ واكتفى بوضعِ يدِه على قلبه!

فقال له محاولا التخفيف عنه:

  • عندما كنتُ في عمرك، ألقت عليّ والدتي حذاءً من أحذية والدي الثقيلة؛ لكنّها لم تنم طوال الليل، كانت تأتي وتقف على باب الغرفةِ؛ تتأملني والدموع في عينيها؛ وكنتُ أتظاهر بالنوم، وبعدها لم تضربني أبدا!

تنهد ابنه، وقال متأثرا بقصّة والده:

  • هل جميع الأمّهات مجنونات؟!
  • بل نحن نثير جنونهن، جميع الأمّهات محبّات، وعندما ستعود اليوم ستجد كيف ستعاملك أمّك، وستكفر عن خطئها بتدليلك حتى آخر العمر!

ثم سألهم:

  • ما رأيكم أنْ نخرج في نزهة؟!
  • والمدرسة؟!
  • إجازة!
  • فرح الأطفال، وصفقوا لاقتراح والدهم، وقالوا بصوت واحد:
  • إلى البحر!

وعندما وصلوا، قال لهم:

  • انزلوا، وتنفّسوا الحياة!
  • الحياة تعني البحر!
  • بالضبط!

وقفوا جميعا على نفسِ الخطّ، محدّقين في لمعان البحر، وهدوء أمواجه، وانعكاس خيوطِ الشمس على صفحته مغيّرا زرقته إلى اللّون الفضيّ البرّاق، بطريقة أدهشت ابنته؛ وقالت له:

  • أريد ثوبا كلونِ البحر!

أشار إلى عينيه:

  • من عيوني!

فطوّقته ابنته التي لم تتجاوز السابعة امتنانا. بينما ركض الولدان على رمال البحر بلا أحذية، وتسابقا غير آبهين بوخزِ الأصداف، والقواقع المتناثرة على الشاطئ.

كان يراقبهم، والتحقت الفتاة بأشقّائِها، ثم انسحبت من السباق؛ لالتقاط الأصداف الملونة، ووضعت القواقع في حجابها، تاركةً لنسيم البحرِ فرصةً للعبثِ في شعرها الناعم المتطاير.

اقترب منها؛ ليشاركها جمع الأصداف الملونة، وعثر على واحدة كبيرة جدّا، فقال لها:

  • هديّة بابا لكِ!
  • والفستان؟!

كان سؤالها يشبه أسئلة والدتها المليئة بالشكوكِ وسوء الظنّ؛ فلا يعبر شيءٌ دماغها دون أنْ يتعرض لغربلةٍ، واستنتاجٍ بعيدٍ كلّ البعد عن المقصد الأول! وابنته الآن تعتقد بأنّ الصَدَفَة بديلاً عن الفستان! رغم أنّه وعدها!

كما سبق ووعد زوجته بشراء هاتف لها، وما إنْ تأخرّ أسبوعا عن وعده حتّى بدأت الأسئلة الملغومة بالشكّ تنساب في كلامها، وملامحها، ورسائلها، وقصصها التي تختارها بعناية؛ لترسلها على هاتفه، وعندما نفدَ صبرها، أرسلت له مقطعا دينيا يتحدث فيه عن عاقبةِ الكذبِ والسعير الذي ينتظرُ الكذّابين!

بينما تعطي أكاذيبها مسمىً آخر، فقد يكون سَهْواً بريئاً، أو نيّة طيّبة! ومن غير قصد؛ لذلك ستؤجر على كذِبِها، وسيدخل هو الجحيم! أو كما تقول له:

  • جنابُكَ في النار!

لكنّه كان يواجه هذا الكمّ من الهوسِ بابتسامة؛ لأنّه تعوّد ذلك منها، تكيّف معه، وتعلّم أنْ يتغاضى عن عيوبها البسيطة، وأنْ يركز، هو، وقواه العقلية على محاِسنها، ودموعها العفوية التي تذرفها فرحا بعد أنْ يحققُ وعوده لها؛ فتبشّره بأنّه من زمرة الصالحين؛ ولن تمسّه النار!

  • وبأنّها ستكون زوجته في الجنّة!

فينظر لها مصدوما؛ لكنّه يتذكر عواقب هذه النظرات المُسْتَفِزّة؛ فيرخي بصره، مبتعدا عمّا يثير إزعاجها؛ لتمرّ الليلة بسلام!

وسيكون مضطرا لابتلاع طبق السلطة الإيطالي، (أنتيباستو) الذي لا يجيد نطقه، ولا يستسيغ طعمه؛ فيكتفي بابتلاعه؛ حتّى لا يشعرها بذلك!

يوما ما قالت له:

  • ما أكثر شيء يعجبك بي؟!
  • كل شيء! كل شيء فيكِ يا عزيزتي!

أدركت من ردّه السريع المختصر، بأنّه لا يحبّها؛ بل تكيّف على وجودها، وشتّان بين الحبّ، والتكيّف!

لذلك غطّت وجهها، ودخلت في بكاء عميق! أو نوم عميق كما كانت تتظاهر!

وبكت! هكذا بلا سببٍ مقنعٍ للبكاء! أو لأنّ تأثير الكلمة غير معترف به في قاموس بعض الأزواج؛ فيلقي الواحد منهما على الآخر كلمةً مازحا، أو قاصدا، أو عن جهل، أو وعيّ! وينتظر بعدها أنْ يمرّ اليوم بسلام!

كالسلّام الذي بدأ يثير شكّه الآن في ردّة فعلها إذا عرفت بأنّ الأولاد لم يذهبوا إلى المدرسة!

ولم يكن يتخيل صراخَ زوجته أمام زميلاتها؛ عندما وصلتها رسالة من المدرسة تسألها عن سبب تغيب الأولاد؛ لتتصل بزوجها الذي وضع هاتفه في السيّارة، واتّجه للشاطئ للّهوِ مع الأولاد.

لذلك أسرع لهاتفه، وشعر برعب حقيقي بعد رؤية عدد المكالمات الواردة في هاتفه! وخشي أنْ يفتح الرسائل، ويقرأ ما فيها من هجمّة مرتدّة من زوجته!

فاتّصل بها مرددا الشهادة! ليخبرها بأنّه أخذ أولاده في نزهة! ومستعدّا لسماع صراخها، لكنّه سمع صوتاً باهتاً طحنه الهلعُ، واكتفت بقولها متنهدة:

  • الحمدلله.. الحمدلله.. المهم أنّكم بخير..

أغلق الهاتفُ وتحدث مع أولاده؛ للاتّفاق على جملةٍ واحدة يبرّرون فيها سبب تسرّبهم من المدرسة، حتّى تمرّ الأزمة بأقلّ الخسائر!

لكنّ أولاده توقفوا عند تراشق الاتّهامات لبعضهم البعض؛ مشيرا كلّ واحد منهم للآخر بأنّه سيقول كلاما مغايرا عن الاتّفاق! وسيكون سببا في كشفِ الكذبة من أول كلمة!

واتّفقوا أخيرا بعد شعورهم بالإنهاكِ من استيعاب المبرّرات التي ساقها والدهم، وأشاروا جميعهم له:

-أنت السبب!

 

(النهاية)

 

تعليق عبر الفيس بوك