ضرورة القراءة من اليسار في بعض الأحيان

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

من المُعيب للإنسان السويّ قراءة الأمور من حوله وتفسيرها قياسًا على واقعه وقناعاته ورغباته بحيث يجعل من نفسه ومن بيئته وثقافته وموروثه محورًا للكون وميزانًا للحق، فبهكذا عقلية لا تتحقق لزوميات التطور العقلي ولا تتحقق مغازي ودلالات ومرامي الآية القرآنية "الدستورية": "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [سورة الحجرات: 13].

كثيرة هي المواقف والأشياء في حياتنا التي تتطلب منِّا التجرد والتسلح بأدوات وأنماط تفكير غير تقليدية لفهمها والحكم عليها لبناء مواقف منها حتى وإن كانت النتيجة إقلاق موروثنا العقلي والتجاسر عليه أحيانًا رغبة منِّا في إنصاف الحقيقة لا غيرها.

البعض منِّا يعتقد أنَّ الحقيقة يجدها بين سطور الجُمل والكلمات التي يستعرضها في بطون الكتب والمقالات والتقارير، وتتعمق قناعته بأنَّ عادة القراءة وحدها كفيلة بتبصيره بالحقيقة خاصة في حالة تواتر الروايات والآراء تجاه فهم قضية ما أو تحليل شخصية ما، سواء كانت هذه القضية وتلك الشخصية تعيش بيننا أو من الزمن القديم، بينما الحقيقة نجدها بالبحث والتقصي والتحقق فيما ورد وفق قاعدة الثلاثية العلمية النقل والعقل والقياس وشتان ما بين القراءة والبحث بين سطور ما نقرأه، لهذا نجد الكثير بيننا عقلياتهم نقلية مستنسخة تحتفظ بما تقرأه وتقدسه وتعتقد بصوابه والقليل بيننا يتمتعون بعقلية يقينية ناقدة.

وفي زمننا هذا زادت الضبابية والتسطيح وحصار العقل بطرق ووسائل تفوق العقل وأنماط التفكير التقليدية؛ حيث لم يعد الإنسان حرًا فيما يعتقد؛ بل مُسيّرًا بوعي وبلا وعي من الآخر الأقوى منه والمُؤثر عليه، ومن لا يقرأ أصبح يُقرأ له وبه عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والتي جعلت من الكل متساوون في الخزين المعلوماتي والتحليلي والقناعات، وجعلت من يمتلك ناصية المعرفة والفكر الحقيقي وكأنه يُغرد خارج المألوف والسرب؛ حيث لم يعد العالم- وكما كان- متعدد الثقافات وأنماط التفكير والرؤى؛ بل يُراد له التوحد في كل شيء، وأن يُصبح بعقلية القطيع والبُعد الواحد في تفكيره واستنتاجاته وقناعاته.

فالتحزب الفكري الذي يسود العالم اليوم وفق الطرح الرأسمالي الغربي من الخطورة بمكان حين جعل العالم يعتمد التفكير والنظرة الغربية لكل ما هو حولنا من قضايا وأحداث وشخوص عبر الإلحاح والإكراه العقلي. وهذا ما يُمكن أن نُسميه بالقراءة من اليمين للأشياء، بينما هناك قراءة أخرى من اليسار تُهدينا إلى الحقيقة الغائبة ولكن القليل منِّا من يعلمها ويُجهد نفسه ليستعين بها للخروج من حصار العقل إلى دائرة حرية العقل ليبني قناعاته ورؤاه الخاصة بمعزل عن مؤثرات ثقافة الموروث والقطيع.

نحن في الوطن العربي وبحكم تسليط الضوء علينا من قبل الغرب الاستعماري في إطار الصراع الحضاري الوجودي بيننا وبينهم كنَّا أكثر الشعوب تأثرًا بنظرية وفرضية القراءة من اليمين للأشياء من حولنا؛ بل وأمتد الأمر بنا إلى الاحتكام لهذه الفرضية لفهم بعضنا وأنفسنا وتاريخنا ومعتقداتنا كذلك، فما يقوله الغرب عنَّا وعن تاريخنا وثوابتنا وواقعنا هو بالضرورة نصاب حق لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه!! لهذا نُصنف العالم بشخوصه وأحداثه وفق الرؤية والطرح الغربي وبحضور واضح لثقافة ما سُميت بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي بعد زمن الحرب الأوروبية الثانية (العالمية).

فكل تقييمنا ونظرتنا للاتحاد السوفييتي- كمثال- ودوله وشخصياته، والصين وكوبا وكوريا الشمالية هي من نتائج القراءة من اليمين، بينما حقيقة تلك البلدان ونهجها وشخصياتها لا يمكن فهمها إلا عبر القراءة الموازية وهي القراءة من اليسار؛ فالقراءة من اليسار هي الطريقة المُثلى لفهم خصوم الغرب ومناقضيه بطرق صحيحة وفهم عميق وبغير ذلك فنحن كمن يحمل الأسفار بغير علم ولا هدى وينقل الجهل برحابة عقل وصدر.

قبل اللقاء.. "تستطيع خداع كل النَّاس بعض الوقت، وتستطيع خداع بعض النَّاس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع خداع كل النَّاس كل الوقت" (إبراهام لنكولن- رئيس أمريكي سابق).

وبالشكر تدوم النعم..