أخشى أن أفقِد إنسانيتي

 

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

(1)

ما يشقيك؟

كثيراً ما ينتابني هذا الشعور، حين أناظر الصِّراعات القائمة على توافه الأمور، الأمور الدنياوية البحتة: سُلطة منصب، مقعد باهظ الثمن، طاولة خشبية مستديرة، اجتماعات على قدم وساق، سُرعة وعَجَلة من الزمن تَطْحَن.. كم خشيت أن يسقط منها الزُّنبرك فتنفك العجلة وتتهشم. أم لعلِّي أحتاج لها أن تُشرخ وتتوقَّف لبعض الوقت حتى يتسنَّى لي أن اتأمَّل وأفكِّر بحرية.

أحتاج إلى ومضة وأن أنظر لأفق مفتوحة بلا سقف، وأعيد حسابتي حتى لا أفقد إنسانيتي.

(2)

إنسانية على المحك

توقَّع في المعارك التي تخوضها باختيارك أو عدمه إن فُزت أو خَسرت ستخسر شيئًا ما: ملابسك الممزقة، أو دمَّ أحدٍ ما لطخك، ولكن حين تنزل المعارك من مستوى الاشتباك بالأيدي إلى التراشق اللفظي، سهامٌ ورماحٌ بصرية وتشويهُ صور، فاعلم أنَّ الإنسانية تسقط سهوًا في مزبلة الواقع الدنيوي اليومي الروتيني. فهل يستحق الأمر كلَّ ذلك؟ هل تستحق المعارك أن أفقد شيئا معها، أم أنَّ النَّجاة من خضم المعركة أهم؟

قد تكون العبرة ليست بالنجاة من الخطر، ولكن بالاحتفاظ بشيء يسهُل ويصعُب فقده، وهي الإنسانية، ألم تكن من سخرية الأقدار أن ينجِّي الله عزوجل فرعونَ ببدنه وتهلك روحه؟!

(3)

فرِّق تسُد

مشروع إنجليزي، أو القاعدة الذهبية للإمبراطورية التي لا تَغرُب عنها الشمس، إلى أن كسرتها الشموس وأفلت، إنَّها القاعدة الوحيدة التي يُطبقها كل عربي بضمير حيٍّ، ويعشقها كل مومياوات الكرسي المُذهَّب، وحين أقول مومياوات أعنى بها العقلية المحنطة التي تسعى لإعادة المحاباة إلى منظومة العمل بأسلوب فرِّق تسُد. وقد تسعى المومياء إلى التزلُّف والتسلُّق والتزحلُق والتسلُّق ليظهر بصورة الأكمل، ولن يطمئن قلبه الصغير إلا بتشويه غيره ليضمن تفرُّده، فقد أحسنَّا صُنعًا بأن حفظنا الدرس الإنجليزي "فرِّق تسُد".

(4)

خسائر لا تُحتمل

أن تفقد الشجاعة أمرٌ وارد ومخزٍ، فإذا انتابك الهلع والارتباك والقلق فهو شعور طبيعي في المعارك، ولكن أن تَجبُن أو تُؤثِرَ الصَّمت تجنُّبا للعواقب، فيخفِّف ذلك من إيقاع خطى المومياوات المتصلبة والمتحجرة، وليس بالضرورة أن يكون الصمت مرادفًا لقلة الحيلة، تلك معارك تُلزمك ببعض من الوقاحة، وأن لا تفقد شجاعتك؛ لأنك لن تقوى على مواجهة نفسك أو النظر في المرآة، فالشعور المخزي لا يُمحى بسهولة. ولكن احذر من الخسارة التي لا تُحتمل أن تفقد أخلاقك وقيمك، فلا تنزل إلى مُستوى المحنَّطات، وتُشهِر سلاحَ التشهير ذاته. تذكَّر أثناء المعارك أنَّ الخسارة الأكبر أن تخرج منها دون أن تتطهَّر أو تتعلم، وأن تخرج بكل نواقصك وعيوبك دون توبة أو غفران، فتعتل روحك.. فهذه خسارة لا تغتفر.

(5)

كيف أنقذ إنسانيتي؟

جلستُ بعد المعركة أفكِّر وأتأمَّل: ماذا لو فقدت جزءًا من إنسانيتي دون أن أُدرِك؟ ولم أجد إجابة مُقنِعة، فقررتُ أنَّ بعض العزلة بعد تلك المعارك الصغيرة لن تضُر، كنت مُوقِنة بأنَّ نعمة الهدوء ستُعِيد الأمور إلى نصابها، وتسير الأمور وحياتي وفق أطرها، إلى أن تعود لزاوية راحة البال، من المهم أن أنجو من أي معركة دون جرحى ودون أن أفقد شيئًا ما.

لا بأس.. بعضُ الشقاء ناجع، وبعض المعارك ضرورية، وبعض العزلة واجبة، هي قراراتٌ قاسية وصارمة، العزل والتأقلم معها كلها فرص انتَهِزْهَا لتوصِل ما انقطع، وتُبقِي روحك منطلقة.