القُمع المقلوب

 

عائشة السريحية

من الطبيعي أن تملأ القناني الفارغة باستخدام القمع، فهو قادر على احتواء الكم من أي شيء ثم إفراغه في أضيق الفتحات، دون هدر للمواد المعبئة، الأمر بسيط وبدائي.

لكن من غير الطبيعي أن نقوم بقلب القمع ثم نصب المواد المراد تعبئتها لقنوات ضيقة، فهذا يخالف العقل والمنطق.

حين يحاول المعلم مثلا سكب كل المعلومات لأدمغة طلابه عبر القمع المقلوب سيحظى بأرضية تغرق بالعلم وقوارب فارغة في عقولهم، وحين تحاول الأم أن تملأ عقول أطفالها بالسلوكيات والتصرفات اللائقة عبر قمع مقلوب، ستجد أنها تكثر الشكوى من عدم جدوى ما تقوله دائما.

وعندما يحاول المدير أو المسؤول أن يملأ عقول موظفيه، بمنهجه الخاص باستخدام القمع المقلوب، سينعم بالتزام وظيفي لكن الإبداع فيه صفر.

وكذلك الأشياء تفعل أيضًا، فحين يقوم المبرمج بإدخال كم هائل من البيانات على جهاز حاسوب لا يمتلك السعة الكافية ولا معالج ذا كفاءة عالية، يتوقف الجهاز عن العمل.

إذن ماهو القمع المقلوب ؟

هو كل محاولة لإقحام كم هائل من المعلومات أو السلوكيات أو البيانات لأجهزة أو أشخاص لا يستطيعون استيعابها، فليس الجميع له قدرات عُليا، وليست كل الأشياء ذات كفاءة عالية، لذلك القمع هو مُجرد أداة مقياس لتحليل ما تود القيام به وكيف ترغب بالقيام به.

قيل قديماً أن رجلا حمل حماره حمولة ثقيلة جدا، فلم يستطع حماره الحراك، فقام بضربه وجلده فمشى حماره مغلوباً يكابد عناء الطريق، وعناء الحمل الثقيل وما كاد يعبر نصف المسافة حتى خر ميتا، ففقد الرجل بضاعته وحماره.

إن الرغبة في اختصار الوقت والجهد، والإنجاز، والإبداع، دون معرفة كافية وتخطيط سليم وفكر واع، يقلب القمع رأسا على عقب، ويحمل الناس والأشياء مالا طاقة لهم به، قبل أن تستخدم قمعك عليك أولاً بقياس الاستيعاب، فالقدرات عند الناس متفاوتة، والمهارات كذلك، وتخير الكفاءات أهم من شحن الجميع بنفس مستوى الطاقة، فهناك من يستوعبها، وهناك من ينفجر، وهناك من يشعل حريقاً يقضي على الأصلح بسبب تلك الرغبة في صنع المستحيل.

البشر كالأجهزة الإلكترونية، والفارق هو جوهر التكوين الذي يحمل الفروقات الفردية، ولتوضيح الفكرة لنفرض أن بروفيسورا في علم اللغويات قرر أن يعلم مجموعة من النَّاس لا يتحدثون سوى اللغة العربية، اللغة الصينية في سبعة أيام، فحضر طرقاً إبداعية، وجعلهم يستمرون في الاستماع إليه وهو يتحدث الصينية، وفعلاً يبدأ بعض المشاركين في التعلم السريع والتجاوب، بينما البعض سينسحب، وبعد إتمام الأسبوع يطلب منهم كتابة بحث عن تاريخ الصين وحضارتها.

من المنطقي أن نجد المجموعة كلها تنسحب، فالقمع كان مقلوبا ولم تتسرب لذاكرتهم سوى بعض العبارات والجمل.

ولو قام البروفيسور باتهامهم جميعاً بالغباء، فسيكون الأمر مثيرا للسخرية، ولو شك بقدرته على التعليم فسيكون الأمر مبالغاً فيه.

كذلك حين يتم توظيف أشخاص عاديين في وظائف إبداعية يعتمد فيها مسؤول الموارد البشرية على الشهادات أو المعدلات العالية، دون مراعاة المهارات والقدرات العليا، فيجدهم حين يوطنون بمستويات بسيطة، تظهر عورات النقص الإبداعي عندهم، فيبدأ الخلل في النسيج المؤسسي، حين يتملكون هم بدورهم اتخاذ القرار.

وكذلك حين يقوم الوالدان بجعل الطفل آلة تحصيل دراسية، وقتل أي مواهب إبداعية خارج صفوف المدرسة، إن كتب شعرًا نهروه، وإن رسم لوحة زجروه، وإن لعب الشطرنج اتهموه بالإهمال، فهم يستخدمون القمع المقلوب، فيخلقون جنديا نظاميا يتبع النظام لا طالباً يبدع في اختيار مستقبله، وينمي مواهبه، وقد نكون خسرنا رسامًا عالميًا، أو مخترعًا عبقريًا، أو كاتبا مميزا، أو لاعبا دوليا،وقس على ذلك.

ويتوسع الأمر كثيرا حين يحمل مواطنو أي دولة حكوماتهم مشاكل الفقر أو المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، دون مراعاة أداة القياس، مصادر الدخل، مديونية الدولة، مسؤولية البنية التحتية، الاقتصاد العالمي، وغيرها من الاعتبارات، فتصبح مطالبهم عبر القمع المقلوب أكبر من قدرة استيعاب دولتهم الحقيقية لها، فتتأزم الأوضاع وتختل السكينة والأمن، وكذلك الحكومات في بعض الدول التي ينتشر فيها الفساد والقلاقل والنعرات، حين تحمل الحكومات شعوبها ما لا طاقة لهم به فتتحول لمتاريس عسكرية وقمع وإرهاب وفرض قيود استعبادية، وعبر القمع المقلوب تمارس القمع والقهر والإذلال فتنكسر الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتبدأ زعزعة الأمن والثورات والفتن والتدخلات الخارجية وحينها يخسر الجميع ولا رابح بينهم.

إنَّ أداة القياس فيما يوضع أو يطرح يجب أن تكون وفق دراسة ووعي ومنطق، معرفة ما تضعه فيما يستقبله، وما تطرحه عند من يستوعبه.

القمع المقلوب يتم استخدامه أيضًا في النفخ والتعظيم والبهرجة الإعلامية، لظاهرة ما أو لشخصية ما، أو  لحدث ما وهو لا يستوعب الزخم الذي يثار حوله، ويعطى أكثر مما يستحق، فيتسرب الخلل على جوانب القمع، ويملأ ما حوله بالزيف والخداع، دون التحري عن ماهية الشيء وجوهره الحقيقي.

والقمع المقلوب أيضًا قد يستخدم بطريقة عكسية في تحقير كل ماهو عظيم، وتصغير كل ماهو كبير، وتقزيم كل ماهو ضخم وهكذا.

ولنضع مثالاً لتوضيح الصورة، المُخترع مارتن كوبر حين أراد أن يقدم للعالم أقوى اختراع للتواصل وهو الهاتف المحمول، لم تلق فكرته قبولاً في شركة "AT and Ts Bell" ليس لأنهم لم يعرفوا قدراته، بل لأنهم استخدموا القمع المقلوب في القياس، وحين اتجه لشركة منافسة استطاع أن يخرج للعالم بأول مكالمة من هاتف محمول انتجته شركة موتورلا ١٩٧٣م، وكانت المكالمة الأولى له مع منافسيه من ذات الشركة التي رفضت قدراته الإبداعية مثبتاً لهم أنه كان محقا وأن قمعهم كان مقلوبا.

إنَّ القياس والتحليل والمنطق والمعرفة، لا تكن أحياناً كافية في حال كان الذي يقيس هو أقل من المستوى المطلوب، أو يقوم بتقييم من هم أعلى منه مهارة وقدرات، فيحدث خللا وفجوة عظيمة بين القائس والمقاس.

والقمع المقلوب، هو ظاهرة لا يمكن بحال القضاء عليها، ولكن معرفتها والعلم بها أمر في غاية الأهمية، لأن درء جزء كبير من ضررها أنفع وأهم من تجاهلها أو إنكارها، وتصحيح وضعية القمع المقلوب أمر مطلوب وفي غاية الأهمية من كل فرد فينا وعليه مراعاة تصحيحه، ولو أخذناه بمحمل الجد وبذلنا وقتا وجهدا للتفكير قبل الكيل، لصنعنا فارقا سيغير مجرى التاريخ، ولسابقنا الريح، واعتلينا القمم.