ثورة العقل والوعي

 

 

فوزي عمار

"عقلنة الوعي وبين الوعي والعقل ما لا يعقل".

انقسم التاريخ البشري الحديث إلى عصور بدأت بالزراعة والرعي واختراع العجلة أولا، عصور الفراعنة، وبابل، وسومر، التي قامت على ضفاف أنهار هي النيل والفرات ودجلة. ثم جاء عصر الصناعة الذي دخلته أوروبا بعد الثورة الفرنسية واختراع آلة البخار وازدهار الفن والنحت. تشهد على ذلك لوحة الموناليزا المعروضة في متحف اللوفر باريس اليوم، وازدهر  الفكر السياسي على يد جان جاك روسو وغيره، ثم جاء اختراع السفينة ومركبة الفضاء، فحدثت خلخلة في النسيج الاجتماعي وتفكك في روابط القبيلة والأسرة الكبيرة، وتحول من العقل الجمعي إلى الفردانية وتأسيس مشروع الحداثة.

نشأت الديمقراطية تزامناً مع العصر الصناعي، وامتدت إلى عصر المعلومات والخدمات والاستنساخ، ليصل العالم اليوم إلى ما سوف يطلق عليه عصر الحكمة. كل ذلك نتاج ثورة العقل، فمجرد دخول الإنسان إلى عصر الصناعة، هاجر من المزرعة تاركاً الإقطاعية وحيدة بعد أن استعبدته لعقود، متحالفة مع الكنيسة، إذ الإقطاعي كان يملك الأرض وما عليها من بشر وحجر وزرع، لتأتي ثورة يقودها العقل يدخل بها الإنسان عصر الصناعة منتقلا إلى المدينة ليمارس العمل في ورشة حدادة، ويسكن مع زملاء المصنع من مدن مختلفة، ليتكون المقهى وحديث التنوع وتتشكل الثقافة الجديدة والمرحلة الاجتماعية. فتحول الإنسان من الإقطاع والثقافة الساكنة ليدخل مجتمع المدينة، مجتمع المخاطرة، الذي عبر عنه المفكر الألماني أولريش بيك.

يتدخل العقل من جديد في عصر الإنترنت ليخرج الإنسان من سلطة وقمع الدولة البوليسية ليحيا في عالم افتراضي وعولمة تخاطب الجموع مباشرة دون رقيب، من خلال الإنترنت ومواقع (السوشيل ميديا) التواصل الاجتماعي محققاً ثورة، دخلت على إثرها البشرية عصر الحداثة المتأخرة كما يسميها العالم الاجتماعي البريطاني أنتوني جوندز والتي سمتها التغير السريع الذي لا يمكن ضبطه والارتباط بالتقنية. كل ذلك واكبه خلخلة المجتمع والدولة الساكنة لتصبح في حالة سيولة وتكتسب لأول مرة تلك الشعوب حريتها، حتى درجة الفوضى، وتتخلص من حكم ديكتاتوري. لكنها تصطدم بغياب نموذج سياسي يتماشى مع ثقافتها وهويتها فهي لم تدخل العصر الصناعي أصلا.

بل جاء النفط ليُحقق نمواً بدلاً من التنمية وليؤسس ثقافة استهلاكية تجعل البدوي يركب سيارته الألمانية ويتعامل معها كتعامله مع الجمل أو الحصان. لقد دخل البدوي عصرا غير عصره متسلحاً بثروة هائلة حققها له اكتشاف النفط،. ولم ينتقل بالتوازي إلى مجتمع الحداثة إلا من خلال المظهر والديكور فأصبح كمن يلبس معطف الفرو في الصحراء الكبرى.

لقد بدا غريبا ومتناقضا إلى درجة أنه يلبس ديكور الحقبة التاريخية للإسلام دون أن يكون مسلماً حقاً يحب لنفسه ما يحب لأخيه؛ بل أصبح مقاتلا لكل من يختلف معه في فهمه هو، وليس في الدين نفسه، منصبا نفسه وكيلا أرضيا للدين السماوي، بالرغم من انتشار العلم والتقنية ولكن لم يواكبهما وعي بقيمهما وأساسهما النظرية، فأصبحت مادة استهلاكية غير متجذرة في ثقافتنا، بل نمارسها في أحيان الاستعلاء عليها وعلى من أنتجها.

أما النموذج الآخر فقد ظهر منسلخًا من ماضيه معاديًا له ومحاولا الانتقام منه ومنبطحا أمام ثقافة الغرب ومنبطحا لها منتقدا لكل ما هو أصيل في ثقافته وحياته.

نموذجان يمثلان تطرفا وليس وعيا بطبيعة الأشياء وظروفها والعوامل المؤثرة في محيطها، إلى أن نصل إلى مشروع حضاري سياسي واجتماعي واقتصادي يعقلن الوعي ويكون أساسه الثقافة الوسطية، ويقوم على قيم العمل والجمال ويُؤسس لثورة في العقل والوعي ويشارك العالم القيم الإنسانية المشتركة. سنستمر على هامش التاريخ المعاصر والتشظي بين العقلنة والوعي وما لا يعقل إلى حين.