الآخرون هم "النعيم"

 

 

عبدالله الفارسي

 

وصلتني عدة تعليقات على مقالي الذي حمل عنوان "الآخرون هم الجحيم"، لا اكترث غالبًا لتعليقات الكثيرين، لكن هناك فئة مُعينة فقط هم من يهمني تعليقهم وتحفزني انطباعاتهم.. أحد هؤلاء القريبين من عقلي الأثيرين إلى قلبي عاتبني عتابًا جميلًا يقول في كتابه "أنت ذكرت الشق السلبي في مسألة الجيران ولم تتطرق إلى الجار الطيب الجار الجميل الجار الرائع".

فقلت له: كان مقالي مُحددًا في عنوانه بأنه غالبًا الناس هم الجحيم؛ سواء كانوا جيرانًا أو أفرادًا في المجتمع. انظر إلى النَّاس يا صديقي في كل مكان في كل مؤسسة، أليسوا هم من يُعذبون بعضهم بعضًا؟! أليس الآخرون هم بعض المسؤولين السيئين المتغطرسين؟! أليس الآخرون هم بعض أصحاب الشركات الكبيرة والقلوب القاسية الظالمة؟! أليس الآخرون هم من يكتب الشقاء والمعاناة على الفقراء والضعفاء والمساكين؟! أليس الآخرون هم من أوصلنا إلى هذا الواقع الجحيمي الذي يعيشه الكثيرون؟!

ومع أنني ضربت نموذجين خفيفين جدًا من باب التلاعب التصويري، ولم أتطرق إلى النماذج والصور الإجرامية الحقيقية من جانب "الآخرين"، والذين يمارسون جرائمهم في حق إخوانهم الآخرين حتى لا أفقد الثقة في العالم ولا أتقلد اليأس من خيرية الناس أو أن أغسل يدي الاثنتين "بسائل فيري المركز" لأطهرهما من طيبة البشر وجمالهم! فالخير موجود وبكثرة والطيبون يتبعثرون في الأرض.

لذلك وعدت صديقي الحساس المُرهف صاحب الملاحظة الجميلة بكتابة الشق الثاني من القضية وهي "الآخرون هم النعيم".. وهنا سأتحدث باقتضاب شديد وأيضا باستخدام تقنية "اللقطة السريعة" عن الآخرين الرائعين؛ فالحياة دون رفقة طيبة لا طعم لها، وكما يقولون حتى الجنة بكل جمالها وروعتها ونعيمها "بدون ناس ما تنداس". وكما يقول المصريون حكماء الدنيا: "النَّاس لبعضها".

وكما قال الشاعر العربي:

الناس للناس من بدو وحاضرة // بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

وسبق أن ذكرت قصة في مقال قديم وثّقتُ فيه روعة الجيران وحسن عشرتهم وضرورة وجودهم في الحياة لأجل الآخرين.

فقد تحدثت ذات مقال عن أحد المسرحين من العمل، والذي باع سيارته وباع خنجره وباع ساعته ليعيش ويُطعم أطفاله وحين نفذ كل ما يملكه، جاء دور الجيران ليتكفلوا بجارهم المنحوس المتعوس المقهور فآزروه ونصروه. يقول الرجل المسكين: كانوا 5 من الجيران الطيبين كل جار كان يقوم بإعداد وجبة لي ولأسرتي، الإفطار يصلني من الجار الأول، والغداء من الجار الثاني، والعشاء من الجار الثالث، وهكذا دواليك طوال 7 أشهر بطولها وعرضها، لم يتوقف الطعام عن التواجد في بيتي، ولم يمتنع الخير من الهطول على داري.

ليس هذا فحسب.. يضيف: في كل شهر كانوا يجمعون لي مبلغًا من المال ويودعونه في حسابي مُباشرة، حتى تمكنت من الصمود والبقاء على قيد الحياة أنا وزوجتي وأطفالي الخمسة.

هذه الصورة البديعة المزهرة، هذه القصيدة الإنسانية الرقيقة هي فصل من فصول كتاب "الآخرون هم النعيم".

موقف آخر ولقطة بديعة لا تقل جمالًا ولا تنخفض روعةً عن سابقتها؛ يقول أحدهم: إنَّ طفلته ذات التسعة أعوام كانت تعاني من أحد أمراض الدم الشديدة، وكادت أن تفقد حياتها بسبب خطأ كبير وجرعة علاج خاطئة من طبيب أحمق وما أكثرهم بيننا ومعنا، أسأل الله ألا يتورط أحد الضعفاء والفقراء معهم. يقول الرجل: سقطت ابنتي إثر تلك الجرعة الزائدة في حالة إغماء وفقدان الوعي. ويضيف: لقد ماتت سريريًا بعد ما جربوا عليها كل جهلهم وطعموها بغبائهم ورشوها بحماقاتهم، وحين اقتنع الطاقم الطبي بأنهم فاشلون عاجزون عن فعل أي شيء لإنقاذها، قالوا لي: "خذ طفتلك من هنا فلا علاج لها عندنا"!! فقررت أن أحمل ابنتي "جثة هامدة" إلى الهند بلد شياطين الطب وعفاريت الصيدلة. وحين وصلتُ إلى الهند وشاهد الطبيب الهندي المُختص حالة الطفلة مسك رأسه بكلتا يديه، وقال: "يا إلهي ماذا فعلوا بهذه الطفلة المسكينة؟!".

وخلال ستة أشهر من عبقرية الطب وفنون التداوي وبفضل الخالق عزَّ وجلَّ، دبت الحياة في جسد ابنتي من جديد وبدأتْ تفتح عينيها وترى النور، وبدأت تتعرف علينا واشتعلت الضحكة في فمها ودغدغت البهجة صدورنا، ونزلت ابنتي من الطائرة بقدميها، بعد أن كنَّا قد حملناها في نقالة شبه ميتة وموصولة بجهاز تنفس. عادت ابنتي حيَّة بعد أن كنت شبه متيقن بأنها ميتة لدرجة أنني حجزت لها تابوتًا خشبيًا بعد وصولي إلى الهند بشهرين.

يقول الرجل: خمسة أشهر وأطفاله الثلاثة الآخرون بعهدة جارهم اللصيق، يُعاملونهم كما يعاملون أطفالهم، يُعطونهم نفس مصروف أطفالهم، ويُلبسونهم نفس الملابس مع أطفالهم الأربعة؛ كأنهم 7 من التوائم، ويسقونهم نفس كمية الرحمة وذات جرعات الحب التي يسقونها لأطفالهم. لدرجة أننا حين عدنا من رحلة علاجنا بكى أطفالي حزنًا على فراقهم لبيت جيرانهم وانتقالهم إلى بيتنا.

هذا النوع الماسي، هذا الصنف الزمردي من الجيران موجود لكنه نادر، ومن يعثر عليه فقد عثر على كنز من كنوز الدنيا.

الجار الذي يحفظ بيتك في غيابك ويرعى أولادك ولا يُطلق شرر عينيه على زوجتك ويكسر أشعة بصره عن بناتك ويتعامل مع عرضك كأنَّه عرضه تمامًا، هذا الصنف من الجيران هم في الحقيقة ملائكة متقمصين هيئة بشرية، ملائكة يمشون معنا ويكلموننا ونكلمهم ويضاحكوننا ونضاحكهم.

وكما أسلفت، هذا الصنف الفريد الطاهر النظيف موجود، لكنه بدأ ينقرض ويتلاشى ويختفي، كما انقرضت كثير من الطيور النادرة جدًا، وكما اختفت الكثير من الأزهار والورود اليانعة.

وأختمُ مقالي بقصة مأثورة عن قيمة الجار الطيب؛ حيث رغب أحدهم في بيع بيته، فكانت قيمة البيت لا تتجاوز 1000 دينار، لكن صاحبه عرضه بـ10 آلاف دينار، فاستغرب الناس من هذا السعر الباهظ، فسألوه: لماذا كل هذا السعر وبيتك لا يساوي أكثر من 1000 دينار. فقال لهم: سعر بيتي لا يتجاوز 1000 دينار نعم، لكن سعر "جاري" الرائع 9000 دينار وربما أكثر! سأترك للساكن الجديد جارًا ثمينًا لا يُقدر بثمن ولا يُقارن بمالٍ أو ذهبٍ.

دمتم بخير..