الكل يحمل معه شظية من "صابرة"

 

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

(1)

"تتَّقدُ روحُه فتتضيء بسَناها أديمَ التلظِّي، فلا تنطفئ أنوارُه.. فماذا إذا انطفأت روحُه؟" (!)

فقدتُ شهيتي للعمل، وكلُّ شي حولي يذوي، تتملَّصُ منه أروحهم فلا تُذكيها أيُّ مشكاةٍ من حولي (!) ماذا يحدُث لي؟ لم يعُد يُدهشني شيء! لم أعد أضحك عند سِمَاع طُرفة! لم تعُد الفرحة ترفرف بين جنباتي، وترافق دقات قلبي طرباً! لا لذة للترحال، ولا البقاء، ولا النوم، ولا اليقظة، خَبَت جذوةُ الحياة مع "صابرة...".

(2)

"أختي صابرة"، أم أسمِّيها "أمي صابرة"، قيل إنَّ لكلٍّ منا من اسمه نصيب، وقد حقَّ القول، فأخذتْ نصيبَ الصَّبرِ منَّا جميعًا، خُيِّل لي أنَّ الصبر ما خُلق إلا ليُرافقها.. عرفتُ الحياةَ عبرها، عرفتُ التَّضحية بها، عرفتُ المُواساة والأنس والصبر والتصبُّر والجَلَد والثبات منها. لها روحٌ عظيمة، هكذا قال "ساراماجو": "إنَّ الروح تَظْهَر كلَّ عظمتها الحقيقية في الملمَّات الكبرى". تتكالب المصائب على ابن آدم، وقد كان حالي طفولة، ويتم في رحاب عالم لا يشفق ولا يميز، الجميع يبحث عن موطئ قدم وعن عيشة رغدة، فما له بثقل أطفال أيتام لن يغنوا ولن يسمنوا، إنَّهم مُعضلة وزيادة حملٍ ومسؤولية لا طاقة لأحد بها.

(3)

طوَّقتُ ذارعي القصيرتين حول ساق "صابرة"، أتشبَّثُ بها كي لا تطير وتختفي وحتى لا تُسرَق مني؛ فقد دَفَنتْ أمي وأنا لم أبلغ الثالثة، ودَفَنتْ أبي عند الرابعة، ومن يومها وشقيقتي صابرة هي أمي، ولا أعرف أحدًا غيرها، فكيف لهذا الرجل الذي يدَّعي أحقيته بها كزوج، أن يأخذها مني، عقلي الصغير يُحفِّزني على المقاومة، على التمسك بساق "صابرة".

"...لكِ بيتٌ ينتظرُك يا صابرة، وابنُ تحميلٍ أولَى، ولليتامى قُربَى أحقٌ وأبقى..."

- صابرة: أنا أولو القربى، وأنا الأحقُّ والأبقَى، أنا أمُّ اليتامى وأخت الثكلى، وإن لم تحملهم أحشائي فهم أبنائي بالدم، لك اختيارك ولي حريتي".

(4)

الأختُ ضلعي ونصف قلب أمي، جبرُ خاطري إنْ هشَّمته ظنون الدُّنى، مِشكَاتي توقد بصيرتي في حيرتها، عَزيمتي تُحييها إنْ تثنت أعمدتي التي لا تنحني، هي السلوان والسلوى، لا تَخِيبُ بها الآمالُ، ولا تنكمشُ عندها الأحلام. "صابرة" يا اضلاعي المُتَّقِدة، يا جذوة فؤادي الذي فَئِدَ برحيلك. أديمُ الرُّوح تخوي، ولا عزاء يُسكِنُ الجزع، تخمُدُ أرواحُنا وتُذكِيهَا ذكراك بالأمل.

(5)

الجميعُ يحملُ معه شظيَّة من "صابرة"، فكم "صابرة" معك؟ وكم ضلع لك قد تكسره، تُهشِّمه، تنساه، تتجاهله، تغفل عنه؟ وكم "صابرة" ترحل بصمتٍ دون وداع، لا حبَّ يغنيك ولا فرحَ يؤنِس وحشتك!! قد تنسى أختك اليوم، لكنها قد تحملك بالغد، حولك ألفُ ضلع يتَّقِد، غيرها يتقد، وغيرها يذوي ويختفي؛ فلا تلومنَّ إلا نفسَك لقتلك "صابرتك".