حكمة السياسة العُمانية وأبعادها العالمية

 

حمد الناصري

 

في نوفمبر 2018 نشرت قناة الحرة الأمريكية على موقعها الإلكتروني مقالاً بعنوان "سلطنة عُمان.. مُحاولات للفهم"، بقلم مالك العثامنة، ذكر الكاتب فيها "ليس من السهل على أيِّ كاتب أو باحث يهدف إلى البحث عن مفاتيح فهم لسلطنة عُمان أن يجد المادة بترف وافر على مواقع البحث باللغة العربية. عُمان عصية على الفهم بقدر ما هي مفتوحة وبسيطة؛ وهو ما يُذكرني بمقولة بوشكين عن روسيا والتي تنطبق على عُمان حين قال: "ذلك لغزها الغامض، غموض ليس فيه أسرار".

وللحقيقة أقول إنّ السلطنة كدولة من أقدم الدُول التي لا تزال قائمة ومُستقلة مُنذ حقبة ما قبل الإسلام ولغاية يومنا هذا بتُراثها العربي الأصيل وتعاقُب حُكمها من قبل قادة وسلاطين تركوا بصمتهم في تأريخ المنطقة والعالم لم تحصل على تلك المكانة والاستقرار والمنعة بضربة حظّ أو بمُساعدة دُول أخرى بل بجهود وتضحيات أبنائها وإيمانهم بحتميّة البقاء.

عُمان اليوم تجمع بين تُراث قديم له امتداد عميق لا يُعرف بداياته ولكن بعض المؤرخين قد أشار إلى عُمق امتداده إلى أكثر من 10 آلاف سنة قبل الميلاد .. وقد أشرتُ في بعض من كتاباتي، أنّ نشأة عُمان تكوّنت مع بداية تكوّن الأرض بدلائل يُثيرها العُلماء تُثبت أنّ السُلالات البشريّة الأولى استوطنت عُمان مُنذ ما يقرُب من مئتي ألف سنة، ذلك أنّ جُغرافية عُمان تنقسم إلى قسمين عُمان القديمة وعُمان الحديثة، فعُمان القديمة امتدادها إلى يابسة الجزيرة العربيّة باتّجاه القارّة الهندية وتمتد إلى السواحل الإفريقية ومداخلها البحرية ومن الخليج العربي باتّجاه البحر الأحمر مُشكّلة موقعاً جُغرافياً حيوياً في العالم القديم والحديث، أمّا عُمان الحديثة الحالية فهي معروفة بحُدودها وامتدادها واطلالتها على سبعة من البُحور والخلجان والمُحيطات.

والباحث في تأريخ عُمان يجد أنّ تلك الدولة التي كانت إمبراطورية كُبرى حتى زمن قريب، سخّرت كُلّ قُدراتها وجُهود أبنائها دوماً لنُصرة الإسلام والمُسلمين من أفريقيا إلى سواحل شبه القارة الهندية وكانت دوماً سنداً وعوناً للشُعوب المُسلمة وفرضت هيبتها وسيطرتها على مناطق واسعة في البحار المُحيطة بسواحلها إضافة للمُحيط الهندي ومناطق أُخرى.

ولطالما كانت السياسة العُمانية تُوصف بالسهل المُمتنع وغُموضها نابع من الهيبة التي فرضتها على أعدائها وأصدقائها على حدّ سواء بلا تكلّف ولا تصنّع وبالقُدرة الحقيقية لتلك الدولة التي حيّرت العالم.

ويُضيف العثامنة في مقاله "رسخت السلطنة طوال سنوات طويلة فكرة أنها وسيط وليست طرفًا، في أي أزمة إقليمية أو دولية" انتهى كلام العثامنة.

وذلك واقع ملمُوس فانفتاح عُمان على العالم وبساطة وقوة علاقاتها مع الجميع جعلها بيضة القُبّان في أيّة توازنات أو تحالفات إقليميّة أو عالميّة وأصبحت قبلة الدُول التي تبحث عن سلام وحُلول لمشاكلها الداخليّة والخارجيّة.

إنّ الظاهر من سُكون وهُدوء العُمانيين لا يدُل على ضعفهم أو استكانتهم بل هو سُكون الأسد الرّابض في عرينه لا ينتظر عوناً من أحد إلاّ من الله وذلك الهُدوء المُهاب هو إشعار الجاهزيّة لكُلّ محنة والسُكون هو تحدّي الواثق من نفسه وما تنعم به السلطنة من استقرار واطمئنان ناعم قلَّ أن تجده في بلد آخر مصدره التلاحُم والإيمان لدى العُمانيين وحكمة السياسة العُمانية التي أصبحت مضرب المثل في التعامُلات بين الدُول.

ومن ذلك المُنطلق بقيت عُمان في منأى عن الأزمات وفي معزلٍ عن المحن التي عصفت بكُل بقاع الأرض ولم يُغرِ حيادها ونهجها المُتوازن يوماً أعدائها لأنّهم يجيدون قراءة سُكونها ولم يتوهّم أحد منهم أنّ ابتسامة العُماني الطيّبة ضعفاً أبداً، فالسُكون اقتدار والهُدوء قُوة وبهما ترسّخت مبادئنا وامتدّت قيمنا وثبتت كثبات الجبال.

نعم عُمان قدّمت منافع للنَّاس كمبدأ للسلام والتعايش والاستقرار وتُقدّم نفسها إلى العالم لأنّها الطرف الموثوق والصّادق والمُحايد في أيّة أزمات أو خلافات أينما كانت وتنأى بنفسها عن أيّ انحياز أو تطرّف وتاريخها وحاضرها يشهدان على حكمة قادتها فلا تضلّ ولا تتيه، ذلك لأنها تعتز بعُروبتها وإسلامها بلا تشدّد وآثرت أن يبقى مقامها ثابتا وساكنا، تتولاّهُ لقُرون طويلة بثوابت تاريخيّة لا تتزعزع ولا تخنع فارتدت ثوب عزّ وفخر، ولم تضطرّها حاجتها إلى الخُنوع يوماً .. بل كانت كُل الأزمات قديمُها وحديثها تنطوي بتعقيداتها عندما تصل أرض السلطنة فتُصبح بعد حين مُجرّد خبر لا يلبث أن يحل السلام ويزول الإشكال.

ويُضيف العثامنة في مقاله: "وقد وصلت حدود عُمان في الدولة البوسعيدية وتحديداً في عهد السيد سعيد بن سلطان 1806- 1856 إلى السيطرة الكاملة على شرق أفريقيا غير استعمارها الفعلي لبعض أجزاء من أقصى غرب آسيا في الجغرافيا الفارسية؛ بل إنَّ الأسطول البحري العماني كان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر منافساً قوياً للأسطول الإنجليزي وندا للأسطول الفرنسي وتذكر الأوراق التاريخية أن نابليون بونابرت نفسه سعى إلى علاقات دافئة مع الدولة البوسعيدية..وهذا لعمري تأريخ يفخر به ليس فقط العمانيون بل كل المسلمين والعرب وتلك الأمجاد لا تزال عُمان تمشي عليها وتتبع أثرها في سياساتها وتعاملاتها"، انتهى كلام العثامنة.

والأستاذ العثامنة إعلامي أردني مُقيم في بلجيكا، مُتخصص في شؤون الشرق الأوسط والدراسات التحليلية والرّصد الإعلامي. وكتب عدة مقالات مُنتظمة في عدة صُحف أردنية وعربية، منها جريدة الرأي.

ويذكُر الأستاذ عبد الله بن محمد الطائي في كتابه « تاريخ عمان السياسي» التاريخ السياسي لعُمان الضارب بجذوره أعماق التاريخ والجغرافية وعلاقة عمان بدول قامت ودول زالت وتصديها أحياناً ومسايرتها حيناً للأطماع والتدخلات الخارجية بدءًا من الفرس والبرتغاليين وانتهاء بمحاولات بالاستعمار الأوروبي الحديث، وكيف قاوم العمانيون ببسالة وشراسة قل مثيلها تلك المحاولات والتدخلات، وكيف حافظوا على سيادتهم واستقلالهم بتضحيات جسيمة ترخص أمام قيمة الوطن العليا وحكموا بلادهم وفق إرادة وطنية" من كتاب "تاريخ عُمان السياسي" بتصرف.. المنشور في 2016.

ويُشير العثامنة في مقاله قائلاً: "وبسبب تمركزها بين أهم مناطق الهجرات في عصور ما قبل التاريخ، قدم العديد من المهاجرين إليها من شبه الجزيرة العربية التي حلَّ بها الجفاف، فبدأت العديد من الجماعات السامية تتجه إلى مواطن جديدة في الشمال، وكانت هجرة الكنعانيين (الفينيقيين لاحقًا) إلى شرقي عمان أهم تلك الهجرات"، انتهى كلام العثامنة.

إنّ الطبيعة التي تطبّع بها العُمانيون جاءت من ظُروف شبه مُستحيلة طبيعية وسياسيّة واجتماعية عاشُوها وخاضوا غمارها فأصبحوا شعباً رغم طيبته وبساطته اللامحدودة شعباً صلباً صعب المراس غامضاً في عُيون أعدائه مُنفتحاً وواضحاً في عُيون وقلوب مُحبّيه وعلى هذا عاش العُمانيون وسيسطرون صفحات جديدة في تأريخهم المجيد إلى ما شاء الله.

تعليق عبر الفيس بوك