نمير بن سالم آل سعيد
في مرحلة اقتصادية شهدت تحديات عدة، حلَّ مرض على البلاد سُمي بمرض "الباحثين عن عمل"، مرض أشد وطأة على المصابين به من الأمراض التي يتم علاجها في المستشفيات والمراكز الصحية، فالأمراض الأخرى يتم تشخيصها ولديها أطباء وأقسام علاجية مختصة بمتابعة حالاتها من أجل شفائها.
أما هذا المرض فلا طبيب يُعالجه ولا ممرضة تعتني بمصابيه. ويصيب في غالبيته فئة الشباب من مخرجات التعليم، المقبلين على الحياة بآمالهم وطموحاتهم في أفضل مراحل حياتهم حيوية ونشاطاً، وأهم فترات توقدهم الفكري والعقلي والعاطفي، وأوج جاهزيتهم للعطاء وتحمل المسؤولية والانطلاق في مسارات حياة كريمة تعتمد على ذاتها بذاتها. وإنما بعد التخرج من الدراسة؛ سواء بشهادة دبلوم تعليم عالٍ أو شهادة البكالوريوس أو حتى شهادة الماجستير وأحياناً الدكتوراه!
يصطدم الشاب بأن الحياة العملية مغلقة أبوابها عليه، حيثما سار وأينما توجه، إلا من خلال نوافذ إلكترونية صماء يتم البحث فيها عن عمل، ولا يأتيه الرد أحيانًا، وأحيانًا يُستدعى للمقابلة ليتفأجا بالأعداد الهائلة المتقدمة مقابل العدد البسيط من الوظائف المطروحة، فتضيع الفرصة ويتبخر الأمل.
ولا يجد الباحث عن عمل الوظيفة المناسبة التي تشعره بكيانه وتحسسه بوجوده، ويلتصق به مُسمى "باحث عن عمل" إلى أجل غير مسمى قد لا يُفارقه، فيشعر أنه في حالة مرضية معطلة لذاته، معوقة لطاقاته، تخيم على نفسه وتتمكن من أعماقه، لا يبرحه هذا البلاء المُعطل لقدراته، يُحاصره في كيانه وينال منه في جذوة شبابه التي تتلاشى شيئًا فشيئًا، كلما طالت المدة وامتد الوقت دون حل يجده؛ لتمضي الحياة به إلى المجهول!
وكلما زادت مدة البقاء دون وظيفة زاد المرض حدة مستهدفًا الذات البشرية في عنفوان شبابها وأوج عطائها، فترتفع لدى هؤلاء نسبة الشعور بالتوتر والقلق والاكتئاب، كما تنتابهم مشاعر الإحباط واليأس وتنخفض نسبة تقديراتهم لذاتهم.
وقد يتحول الباحث عن عمل أحيانًا إلى شخص سلبي جامد، ويقوم بعضهم بالانطواء على أنفسهم وعدم الاختلاط مع الآخرين، مما قد يؤدي إلى الانسحاب تدريجيا من المجتمع والانغلاق على الذات. كما يلجأ البعض إلى ممارسة الكراهية والعصبية والعنف أحيانًا على من حولهم تنفيسًا عن مكبوتاتهم من شدة إحباطهم وهم يرون أعمارهم تذوي أمامهم هباءً كلما مرَّ عليهم الوقت وتجاوزتهم السنون.
فتصبح الشهادة التعليمية التي حصل عليها الباحث عن عمل تشهد ضده لا لصالحه؛ لأنها مضى عليها فترة من الزمن تقادمت فيها، وتراجعت بها قدراته التعليمية والتدريبية دون إعادة تأهيل ورعاية وصقل. فيعتقد البعض منهم أن مجتمعهم خذلهم وتخلى عنهم دون إتاحة فرصة عمل لهم ليصبحوا عرضة للفقر والعوز، لعدم إمكانية تلبية احتياجاتهم الشخصية في أدنى مستوياتها المعيشية، وتركهم يخيم عليهم الملل والضجر وضبابية الرؤية وغياب الهدف.
ومع مرور السنوات تتلاشى آمالهم نحو الحصول على وظيفة، وبالتالي حياة مستقرة بالزواج وتكوين أسرة والحصول على مسكن، ويبقى حالهم على ما هو عليه يستغيثون.
وإنما ذلك ليس بتقصير من الدولة، فهي تسعى بكامل مجهوداتها لحل هذه المشكلة، والقضية غير غائبة أو مُغيبة عن اهتمام المسؤولين المعنيين، وتشكل هاجسًا حقيقيًا، وضمن أولويات الحكومة. وليس هناك دولة لا تريد الاستقرار لمواطنيها ولا تبتغي لهم تحقيق مطالبهم، فما بالك بمطالب الشباب؛ أمل الحاضر وعدة المستقبل. إنما مشكلة البطالة ليست مقتصرة على دولة دون أخرى؛ بل هي مشكلة عالمية شاملة، فالاقتصاد العالمي تعرض لنكبة كبيرة أثرت على كافة القطاعات الاقتصادية وأضعفت قدرات الحكومات والشركات على التوظيف منذ انخفاض أسعار النفط وتدهور الاقتصاد في العالم، وكذلك زاد من وطأة هذه الأزمة تفشي وباء كورونا (كوفيد-19) فتدهورت الأحوال المعيشية وأغلقت الكثير من الشركات، وقل التوظيف إلى أدنى درجاته؛ بل زاد على ذلك التسريح من العمل لتعثر الشركات وضعف المردود الاقتصادي.
وإنما في آخر كل نفق ضوء، فالاقتصاد العالمي بدأ حاليًا بالتعافي ورؤية بصيص النور من النفق المظلم الذي يمر به، مما يحيي الأمل في عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها وبالتالي ينتعش سوق العمل، وتزيد قدرة الحكومات على توظيف مواطنيها الذي عانوا من هذا الوضع وأتعبتهم تداعياته لحد المرض.
وكذلك تكاتف أبناء المجتمع الواحد له دور في زيادة التعافي من خلال توفير مبالغ مالية مشتركة لبناء مشاريع تجارية متنوعة يتم فيها توظيف الباحثين عن عمل. كما إن تقديم التشجيع والدعم والتسهيلات للتجار في بيئة جاذبة للاستثمار يساعد على تأسيس الشركات التي تستوعب الباحثين عن عمل، وكذلك العمل بكل الطرق الممكنة على التقليل من توظيف العمالة الوافدة وإحلالها بالمواطنين؛ حيث بات ذلك واجبًا وطنيًا، فصرف رواتب شهرية للوافدين أولى بها أهل البلاد القادرون على العمل، ولديهم الإمكانيات والمهارات على إنجاز العمل كغيرهم من الوافدين، إذا مُنحوا الثقة والاهتمام.