المتقاعدون القدامى.. نورٌ أضاء طريق المستقبل

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

 

في مقبرة الشهداء عبارة كُتب فيها "أرواحكم نور يضيء طريق المُستقبل"، وما بين عنوان مقالي اليوم وما يليه، فارق لا يُمكن المقارنة بينه وبين ما كتب على مقبرة الشهداء، إنما الفارق هو أن ثلة من الأولين سكنت أرواحهم الجنة برحمة الله، وثلة أخرى رفاقاً لهم في السلاح يعيشون بيننا بين مسن يرعى عائلة كبيرة، وبين آخرون يعانون أمراض الشيخوخة، وجلهم عندما كانوا في مقتبل العمر لم يسألوا عمَّا نراه اليوم من حداثة وتطور ورفاهية، ولا حتى كم هو راتبهم آخر الشهر، كان جل اهتمامهم كم كان عدد الطمبالوات (زمزميات الماء) لكي تكفيهم لثلاثة أيام ليشربوا منها وليطبخوا غذاءهم في مسير على الأقدام قد يصل إلى 100 كيلومتر، عندما لم تكن الطائرات العمودية شيئاً مذكوراً، محملين بالمدافع الرشاشة وقنابل الهاون وكل ما يحتاجه المُقاتل كي يصمد في قتال لا يعرف الهوادة والسكون.

هم الرجال الذين يمكثون على ثغور الوطن العزيز لفترات قد تصل إلى العام الكامل وهم الرجال الذين ينتظرون أخبار أسرهم وأهلهم في رسالة أو برقية عن طريق ضابط الخدمات الاجتماعية وليعلموا عن وضعهم وأخبارهم هم الرجال الذين وإن اجتهدت وإن جفَّ قلمي فلن أصل إلى ذكر روائع أعمالهم والذين أسسوا ليس فقط لجيش عظيم وقوي في عُماننا الغالية، إنما كانوا الشرطي الذي يحرس الوطن، والسياسي الذي كان يزن الأمور، والطبيب الذي يُعالج المواطنين في كل بقاع عُمان الغالية، والناقل والمسعف في كل طارئ في جبال عُمان الشماء وصحارها وأوديتها هم الرجال الذين ساندتهم مقاتلات "سترايك ماستر" و"الهنتر"، وشربوا من براميل الماء بلونه الأحمر، والذي كانت ترميه طائرات الجاموك والكاريبوا بين الجبال، وهم الذين تبادلوا الاتصال بأجهزة "الكومكل" و"السنكل" وبها بشروا أهل عمان بالنصر والتي جميعها اليوم لم تعد معروفة لدى الجيل الحالي.. هم الذين راهن عليهم الوطن أمام تحديات إقليمية وعالمية وسياسات متعددة ومصالح متضاربة، فقبلوا التحدي وكسبوا الرهان فكانت عُمان العظيمة كما نراها اليوم شامخة بين الأمم.

اليوم ولأنني واحدٌ من الذين شاركوهم في بعض من أجزاء ما ذكرت، ولأنني مطلع على حقائق حياتهم وحجم المعاناة والشعور المنكسر الذي يشعرون به من خلال ما يتقاضون من راتب تقاعدي مختلف عن إخوانهم الذين التحقوا بالخدمة بعدهم، ولأنني في العهد الزاهر والميمون لمولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- أيده الله- العهد الذي فتح باباً مشرعاً للاستماع إلى وجهات النظر وتقبلها والتعامل معها بروح إيجابية والتي أصبحت سمة من سمات عُمان المشرفة بين الأمم.. لذا أقولها وبكل المعاني الصريحة علينا أن نضع كل أولويات الدنيا جانباً وأن نرى أولوية حل هذا الأمر بما يتناسب وقدرات الوطن؛ تقديراً واعتزازاً بتلك الوجوه التي لم يبقْ في عوارض لحاها الغانمة شيئاً من السواد إلا بياضاً ووقاراً يعكس بيض أفعالهم وتاريخهم المشرف.

إنَّ ثقتي لا حدود لها في عزم قائدنا الأعلى- حفظه الله- على أنَّه سيُهدي لهم شيئاً يجعل من عهده الميمون أكثر تألقًا وإشراقًا، ورسالة للعالم والتاريخ بأنَّ القادة العظام لا ينسون رجالهم مهما كانت الظروف.