ذكريات لا تحترق

 

عبدالله الفارسي

حين بعت منزلي كانت أكبر مُعضلة واجهتها هي كيفية التخلص من الأشياء التي تجمعت في بيتي طوال ثلاثين عاما، كيف سأفرز ذكريات عمرها ثمانية وعشرين عامًا؟!

كنت أجمع الأشياء وأنا مضطرب الذهن مشتت التركيز، أصابعي تعمل وعقلي يدور ويضطرب، كيف سأتخلص من كل تلك الأشياء؟ أي منها سأتخلص؟ وبماذا سأحتفظ؟ أي منها سيكون مصيره الحرق؟ وأي منها سينجو من النار وسيعيش؟ كأني في رحلة غوص عميقة أبحث عن أصداف نادرة ومرجانات غريبة. كان معي 24 ساعة فقط لتسليم البيت، وهناك مئات الأشياء بحاجة إلى غربلة وتصفية. أحضرت مجموعة كبيرة من الصناديق الفارغة وأكياس القمامة السوداء، كانت من أصعب المهمات في حياتي، وقف حائرا أمام ذلك الكم الهائل من أشياء الماضي، ولم أعرف فعلاً كيف ساتخلص منها، وهل سأحتفظ ببعضها؟! كيف يمكنني أن أتخلص من شيء قديم عاش معي وعشت معه فترة طويلة من الزمن؟ وإن كان فردة حذاء أو قطعة قماش أو قطعة خشب أو زجاج أو بلاستيك؟ كيف استطاعت هذه الأشياء البسيطة أن تغرس نفسها في قلوبنا؟ كيف تمكنت هذه الأشياء التافهة أن تحدث تأثيرا عميقا على النفس وبصمة ثابتة في الروح!

كانت هناك أزواج متعددة من الأحذية القديمة أحذية نظيفة صالحة مازالت لها ذكرى في قلبي حين كنت شابا، قمصان سافرت بها لأول مرة إلى تايلاند وبورما وكمبوديا التصقت بالجسم وعلقت الفؤاد، حقيبتي الكبيرة التي سافرت بها إلى أستراليا بكل أغراضها وأسرارها لم تفتح منذ العام 2001. ألعاب ابني البكر وأغطيته الأولى ورضاعات الحليب البلاستيكية، كانت زوجتي تحتفظ بكل رضاعات أبنائنا في صناديق خاصة ولا تتخلص منها. كانت تقول لي: "لن نرميها". حتى لا تلعقها الجن أو تمصها العفاريت! والحمدلله أنه لم يتعفرت أحدهم حتى اللحظة!

مجموعة كبيرة من ملابس مازالت لامعة لطفلي التوأم ومازالت تعبق برائحتهما، أعداد هائلة من مجلات "العربي" الكويتية التي كنت انتظر تاريخ وصولها إلى مكتبة "أشبيلية" الرائعة الكائنة في منتصف السوق والتي كانت تزودنا بمختلف المجلات الثقافية في فترة التسعينات. شكرًا مكتبة أشبيلية لقد كنت بحق مصدرا رائعا من مصادر عشقي للقراءة. أشرطة فيروز وأم كلثوم القديمة والتي أنتهى عهدها واختفت مسجلاتها وبقي صوتها. ثياب جديدة اشتريتها ذات مناسبة ويبدو أنني نسيتها في أكياسها ولم ألبسها. أقراص "سي دي" عديدة لا أعرف ما بداخلها. مجموعة أكواب مزخرفة عليها صورتي حين كنت في ماليزيا وفي أستراليا وفي مصر وفي سوريا حين كنت مفعماً بالحياة متدفقاً بالأمل.

13 عروسة بكامل أزيائهن موضوعة بعناية في صندوق ورقي مقوى، تلك كانت العرائس التي رافقت طفولة ابنتي ورافقت مرحلة لهوهن ولعبهن ونموهن. شهاداتي وشهادات أولادي من الصف الأول حتى الصف الثاني عشر تسكن في ملف جميل ومنمق.

47 رواية من روايات نجيب محفوظ كنت اعتبرها ثروتي الوحيدة أنفقت عليها أياماً وليالي طويلة كانت صديقتي وأنيستي في أوقات غضبي وهروبي من واقعي. دفاتر تحضيري منذ العام 1990 حين بدأت حياتي المهنية معلماً ومازلت في نفس المجال لم ابتعد عن التعليم سوى سنتميترات فقط. صور لممثلات ومطربات فاتنات كنت احتفظ بها بعيدا عن عيون زوجتي للانتشاء بالجمال وتخليده. صحون وأكواب كثيرة وأنيقة أستخدمناها ذات أعياد ماضية حين كانت للأعياد نكهة الفرح وطعم الضحكات ثم نسيناها حين نستنا الأعياد وهجرتنا الضحكات.

كتاب "المستطرف" وبخلاء الجاحظ والبيان والتبين و"تهافت الفلاسفة" لابن رشد، و"حي بن يقظان" لابن طفيل، وقصة الفلسفة لـ"ول ديورانت"، وعشرات من الكتب الفلسفية والنفسية الجامعية المعقدة المزعجة.

روايات: المسيح يصلب من جديد، والشيخ والبحر، والإخوة كرومازوف، والجريمة والعقاب، وموسم الهجرة إلى الشمال، وقصص مكسيم غوركي، وثلاثية أحلام مستغانمي، وعمارة يعقوبيان، والخبز الحافي، وسلسلة مدن الملح لعبدالرحمن منيف، وروايات عملاق الرواية السورية الراحل حنا مينه (نهاية رجل شجاع- الياطر- بقايا صور) وكثير من القصص التي قراءتها درجة الثمالة و تعلقت بها درجة العشق والهيام. نسخ ملونة للوحات رائعة لبابلو بيكاسو وسلفادور دالي وأسكار وايد، لا أدري من أين حصلت عليها وكيف دخلت عالمي البعيد عن الفن القريب من الأدب؟

قصص أجاثا كريستي الشيقة وحكايات إحسان عبدالقدوس المثيرة، وروايات عبده خال وكل ما كتبه الرائع الجميل الدكتور غازي القصيبي.

سجادات جديدة أحضرتها من الحج وهدايا من مكة والمدينة المنورة لم أهدها لأحد لأنني لم أعثر على أحد كان يستحقها في تلك الفترة.

ماكينات حلاقة متقاعدة شبعت من شعر لحيتي وشواربي فاحتفظت بها وجمعتها للذكرى والسلوى.. ملابس بناتي موضوعة بطريقة غريبة وكأن البارحة تم غسلها وكيها، تذكرني بجمالهن وروعتهمن قبل أن تكبرا ويتغير كل شيء من روعة الماضي وجماله ونقاء أرواحه. وكأن مرحلة الطفولة عالم آخر تماماً لاعلاقة لها بالمراحل التي تليها.

أول حقيبة سفر اشتريتها  وبداخلها معجون إنسان منتج في العام 1993 وبقايا تذكرة سفر وبطاقة لفندق رخيص في بانكوك. كتيبات كثيرة تحمل عنوان: كيف تتعلم اللغة الإنجليزية في أسبوع، وأخرى تحمل عنوان كيف تتعلم الإنجليزية بدون معلم وكيف نتقنها في شهر واحد. صناديق لمساحيق تجميل زوجتي وزجاجات طلاء أظافرها المفضلة لديها والتي لم ترقني أبدًا.

ثياب كثيرة مستهلكة لا أدري لماذا لم نستطع التخلص منها لأنها تحمل رائحة من نحب ونكهة من نهوى.

ستائر غرفة نومنا والتي تعاقبت على نوافذنا مع تعاقب الليل والنهار، كنا قد وضعناها في كيس بلاستيكي كبير لأجل التبرع بها لجمعية خيرية ولكني غيرت رأيي خشية أن تكشف وتبوح بنقاشاتنا المحتدمة وصراخنا ومشاكلنا وهمسنا وأحاديثنا الحميمة. صحون وأكواب وملاعق تكفي قرية كاملة مخزنة في خزانة المطبخ وكأننا سنحملها معنا إلى اليوم الآخر.

حقائب يد لم تتلف بعد ولم تشخ. وإنما أنتهى زمنها وهي في ذروة شبابها .. فسبقها الزمن فتوقفت في خزانة مظلمة لطالما احترمت هيبتها واعلت من مكانتها. دفاتر تحضيري المدرسي القديمة ومذكراتي العديدة وشهادات تقدير مدرسية منتهية الصلاحية وتقاريري الشهرية للمشرفين حين كان التعليم تعليمًا والإشراف إشرافاً. مجموعة هائلة من ألبومات العائلة تحكي قصة أسرة صغيرة  وجميلة عمرها ثلاثين عامًا. ومجموعة ألبومات أخرى لصداقاتي الكثيرة والتي تحمل وجوهاً غريبة بالكاد أستطيع تذكرها وتخيلها والتي عبرت حياتي ذات زمان ثم اختفت كما تختفي أثار أقدامنا على شاطئ البحر.

يا لها من ذكريات لايمكن حرقها وتحويلها إلى دخان وإحالتها إلى رماد وهواء. يكفي أن حياتنا تبخرت وطارت كسحاب عابر ولم يبقَ منها سوى ذاكرة مضمخة بالأشياء الحميمة!

هنا خياران أحلاهما مر كما يقولون :إما أن أتخلص منها في أقرب برميل قمامة ..أو احتفظ بها حتى تنتهي تأشيرة إقامتي في الحياة ويأتي أبنائي فيتخلصون منها بسهولة ويحرقونها بهدوء.

فهي رغم أنها ذكريات تخصهم ومرتبطة بهم لكنها ليست عالقة في جدار أرواحهم كما هي معي هي بعيدة تماما عن وجدانهم ملتصقة بوجداني درجة الانغراس والصدأ.

قررت إهداء الكتب كل الكتب إلى مكتبة صور العامة واحتفظت بكل تلك الأشياء القديمة إنه احتفاظ مؤقت كهذا الوجود المؤقت.

تخلصت من فكرة التخلص منها فجمعتها كلها في صناديق وأغلقتها بلاصق شفاف وحملتها معي إلى سكني الجديد كحمار يحمل أسفارا. حملتها إلى سكني الجديد لعل أبنائي يلقون عليها نظرة ويبحثون في طياتها عن رائحة الأبوة الأولى وعبق الأمومة الذي لا ينطفئ عبر الزمن.

من الممتع أن تكون لك ذاكرة ملموسة.. إنِّها جزء من إنسانيتنا جزء من أعمارنا؛ بل هي الجزء المثير المرتعش من مشاعرنا. من الممتع حقاً أن تكون إنسانا، متخماً بالذاكرة، محاطاً بالأشياء التي ملئت حياتك أريجا وعبأت روحك غناء وثراء وفرحاً.