الشيخ حمد الطائيّ.. «سليل الشعراء وجوهرة الأدباء» (1)

ناصر أبو عون

«النشأة والتكوين المعرفي وبداية الرحلة»

في السنة الثالثة والثلاثين بعد ألف وتسعمائة حولٍ من الميلاد، وتحت جنح العزلة وخلف جدران الصمت الضاربة ستارها الحديدي فوق سلطنة «مسقط وعُمان»، شقّ صراخ الشاعر حمد الطائي بطن الليل ومزّق ظلمات تراكمت بعضها فوق بعض حتى إذا أخرج الحادي يده من صحراء الربع الخالي إلى صنعاء لم يكد يراها؛ أربعون سنة عِجاف جفّت فيها ضروع التواصل الثقافيّ، وتشقق الطين في خد الأرض، وعقمت أفلاج الخير فيبست سنبلات العطاء ومالت بوجهها على صدر الحضارة من الشمال عند رأس مسندم النائمة تحت كفِّ خدها في حِجر مضيق باب «السلام» شمالا، المستأمنة ظهرها إلى المهرة الطالعين من نور أصلابها في «رأس فرتك» جنوبا، الناشرة شمس أصالتها من «رأس الحد» شرقا، المرسلة بصرا من حديد إلى  لسان اليابسة غربا على «خور العديد». هنا ضربت أربعة عقود من الصمت عمود خيمتها الحالكة على تاريخ أمة ما انعقدت أصداحُ دُيوكِ فجرِ علمها عن الأذان صباحَ مساءَ تتردّد في أصداء المعمورة.

فلما وضعت الحرب العالمية أوزارها ارتاد الفتى الطائي المدرسة السعيدية وجلس إلى الأكياس من أساطين علوم اللغات والآداب من فلسطين ومصر وباكستان فاستراح في أهضام المعرفة، واستطرب التأمل في أحوال مسقط العامرة، فأبان عن أناةٍ وثقة متأصلة من الزافرة، وضرب أنف العجلة المهلكة، وأطفأ عين الطيش العامهة، واستنبت الحكمة المتأصلة في نسبه ومنشئه، فكان نَخَلَ الرأي.

جاء الفتى الطائي إلى مقاعد الدرس ليس فيه مهمز من عِي، ولا مغمز من طيش، طوّحت به الأقدار في حِجر معلم اللغة الإنجليزية بالمدرسة السعيدية ناظم علي، فلمّا خَبُرَ نفس الفتى التَّواقة للمعرفة، لا يتتعتع من اللّمة الحُوّل القُلّب، بصير الرؤى، لا مقنوط ولا مستنكف، لقّنه لسانَ الفرنجة؛ صِنعةً ولفظًا ودُربةً واصطفاءً، فأبان عن حافظةٍ انماثت فيها العلوم، تعي سير الشعراء والبلغاء الأولين ناطقة بلسان عربيّ مبين، لا تبطره النعمة، وفور الكرم والهمّة.

وذات مشيئة، وعلى حين قَدَر أطلّ الفتى الطائيّ من شرفات الأمل على «شاطئ بحر عُمان»، فَغَرَ فاهُ على غسقٍ وَقَبَ «خور مسقط»، مصحوبًا بريح حاصبة، تحمل الحصى والطين في أكنافها، إثر زلزال عظيم بقوة 8.3 عام 1945 أوقع مئات الضحايا في الهند وباكستان، فلما وصل سواحل عُمان انكسرت شوكته، وانقلص وثاب إلا من بقايا رياح عاتية حملت الأمواج على أكتافها إلى رصيف الخور وتطاولت إلى عنان السماء وتساقطت أمواجه تترى في مجاري السيول والوديان.

فلما انقضى زمن الدرس، وأضحى الفتى الطائي قابضا على معجم اللغة، وقع الاختيار عليه تُرجماناً في قوات السلطان المسلحة، واثق الخطى، ليس خفيفَ الهام، يتحرّز من الآثام، به جُنّة من الأهواء، وعقلٌ ثوّار لا يقعد به عن صغار وكِبار المهام، ويُحمشه على الأعداء والأسقام.

في هذه الأيام كانت تتقلّب الأحداث على جمر الصراع السياسيّ، وتتصاولُ الأطراف المتناحرة، وتمور نيران الغضب في قَليب الفتن الفائرة، وحملت الأنواء السياسية شرّها وشرارها إلى الأنفس المتحفزة، فلما انجلت غبشة الصراع على (البريمي)، تكشّفت الأحداث المألوسة عن نيران مستترة تحت رماد النصر يحركها الإنجليز المُتقبّعون تحت ستار (معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة 1951) بإيعاز من أمريكا، واحتبلهم القدر الإلهي، فوقع بُجر عظيم، ودارت الأعين في محاجرها، وسبق السيف العذل، وبدأت حركة تأسيس مكاتب للإمامة في كثير من العواصم العربية، ودارت مفاوضات بين الإنجليز والعُمانيين لبضع سنين.. وإثر هذا الحراك السياسيّ انتقل الشيخ حمد بن عيسى الطائي بتزكية من صاحب السُّمو السيد طارق بن تيمور إلى جواذر عام 1956م بصحبة كتيبة من قوات السلطان المسلحة والتقى واليها السيد هلال بن سعود بن حمد البوسعيدي، واستقرّ به المُقام مترجماً في القنصلية البريطانية هناك. فقد استصحب قرينته ورفيقة رحلته الفاضلة أسماء بنت يوسف بن سعيد بن ناصر الكندية وبمعية حمود بن عيسى والفاضلة نور البلوشية زوجة الشيخ محمد بن صالح الطائي وأصل نشأتها أنها تحدّرت عائلة منبتها وأصل شجرتها من (جواذر)، وسافرت معه للقاء إخوتها وأقاربها.

يتبع...

 

nasser@alroya.net

تعليق عبر الفيس بوك