الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
(1)
في دُهمة الليل لم تُثنِه برُودتُه القارصة، وعَمِل بنشاط.. يحفرُ شِقًّا مستطيلًا طويليًّا، وجثة ملقاة بإهمال على الأرض الترابية، وقطعة من القماش الأبيض تُغطِّيها، كاشفًا عن ساعدٍ شاحبٍ نحيلٍ شبه مُتيبس، هتف مُعَاون الحانوتي: "هل نضع الذراع والساق في هذه الحفرة، أم نضع الرأس؟".
ضَرَب الحانوتي بالرفش ساقَ الجثة بخفةٍ، يتفحَّصُ وزن الساق، وجال ببصره في الحفرة المستطيلة، ونَفَث دُخان سيجارته، وقال: "الرأس أولاً، ثم الساق".
أدار الوجه وسأل ببلاهة: "لِمَ؟".
نَفث الحانوتي دُخان سِيجارته في وجه المعاون، وقال بـ"ظُرفٍ ماجن": "ضع من لا يُناسب في المكان المناسب".
(2)
لماذا أركُض؟
توقَّفتُ عن الركض قبل فترة بعد أن أصابني الهلع، شعرت به يتسلَّل بساعده المرتَعِبَة وهو يطوِّق عُنقي، الجميع حَولي يركُض، يُريد منصبًا ومسؤولية.. إنَّه جَهدٌ مُضاعف وعملٌ مُتواصل ليلَ نهار، سينتهي سُدَى بعد أن تُدرك أنَّ شرايينك تقلَّصت وضغطُك قد انفجر. ولكن غرَّتني لِبْرَة سراب صيفي، وحاولتُ الركض مع الجميع إلا وطُرِقت رأسي بمطرقة المنطق: "هل أنا مناسب أو في المكان المناسب؟ ولماذا كل هذا اللهاث والركض؟".
(3)
شَجاعة مَرْيَم...
قرَّرتْ أن لا تَرْكُض، وقد كان أمرًا صائبًا، حين تُحشر في قمم القرارات التنظيمية والإدارية والتي تقلِّصك وتمتصُّك رويدًا رويدًا، يتحتَّم عليك التوقُّف ورَفْض إكمال مشوار الركض، وقد كانتْ مريم شُجاعة واختارتْ الابتعاد عن تسلُّط وتعنُّت مديرٍ أحمق غير مُناسب وُضَع في مكان مُناسب.. آثرتْ النقل إلى مكان أبعد وأهدأ وبلا عُقَد.
(4)
المسؤول الحانوتي
يُحكَي أنه وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط معقل الشيوعية، تَصَادف وأنْ تقابل موظف مخابرات روسية (KGB) سابق مع مسؤول في الاتحاد الروسي السابق، وفي مجرى الحور أسرَّ الموظفُ للمسؤول بأنهم كانوا يُراقبونه لفترات طويلة؛ لأنهم شكُّوا به أنْ يكون جاسوسا أمريكيًّا. وصرَّح المسؤول بأنَّه بالفعل عمل لصالح الأمريكان، ولكن لم يلتقِ بهم غير مرة واحدة فقط، والتي كانت في مجلس الأمم المتحدة، وكان لهم طلب واحد فقط: "ضع من لا يُناسب في المكان المناسب".
بعِبَارة أخرى: "اصنع مسؤولًا حانوتيًّا، وضَعْه على رأس مؤسسة حيوية ومِفْصَل مهم من مفاصل المنظومة التنظيمية والإدارية للدولة، وهو سيتولَّى مهام حفر القبر ودفن كل فِكرة نيِّرة، ووأد كل تطوُّر في مهده، وهذا الانهيار الأول والأمثل.. الانهيار من الداخل.
(5)
صِرَاع الجبابرة بين الفيل والنملة
هل تَقْدِر منظومة قياس الأداء الوظيفي والإجادة المؤسسية الإطاحة بفيال الحانوتي؟!!!
لا أعلم، ولكنها قد تكون نواةً لشيء خلَّاق وجميل، وقد تخفف وطأة الاشتباك الدائم بين الفيل والنملة، قد أعلم بعد أسبوع، وقد أمتعضَ، وقد أعود للرَّكض مجددًا، ولكن هذه المرة سأستأنس بشجاعة مريم قبسًا، ولن تجحف النمل قِطميراً ولا نَقِيراً. ولكن من سيقصُّ شريطَ النهاية ويعلن الفوز وانتهاء الركض.. الأيام حُبلى ودُوَل.
(6)
لكلِّ العدَّائين في مِضمَار منظومة الأداء، ولكلِّ الحانوتيين المتشبِّثين بصبر الأوام، التقطِوا أنفَاسَكم، فلم يَعُد هناك شيء كما كان، وما هو آتٍ آت، قال ربنا عز وجل: "فإذا فرغت فانصب"؛ لذا يتوجَّب على الجميع أن يسأل نفسه بين الحين والآخر عن سبب الركض، ولماذا؟ وهل هو جديرٌ بكل ذلك الجهد المضني؟ امتلكْ بعضًا من "شجاعة مريم" وتوقَّف عن الركض، وغيِّر مسارك لما هو أفضل لك.. لا تتشبَّث بعملٍ لن تنال منه سِوى مرضين: القلب، والسُّكري.
(7)
سُؤالي الأخير: هل ستصنع منظومة قياس الأداء الوظيفي والإجادة المؤسسية "حانوتي جديد" مُهذبًا ومنظمًا وقياديًّا عادلًا وصارمًا، لا يُشقُّ له غبار، أم ستستحدَّث ديناصورًا من العصر الطباشيري الأول؟ في كلتا الحالتيْن، أُشفِق على النمل.. مطحُونين في كل الأحوال.